دعوتان قضائيتان تشغلان الرأي العام التركي وتنذران بتوتّرات بين جناحي "تحالف الشعب" حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية اليميني المتطرّف، الشريك منذ ما يقرب من عشر سنوات في الائتلاف السلطوي.
يتّفق المحلّلون الأتراك على أن سير الدعوتين والأحكام الصادرة عنهما ستحدّدان مستقبل الخارطة السياسية في البلاد، بخاصة أنهما ترتبطان بشكل أو بآخر بحزب الحركة القومية، المعروف بعلاقاته المتداخلة مع المافيا والتنظيمات المسلّحة غير الشرعية في البلاد.
تفاصيل الجريمة
طغت جريمة اغتيال سنان أتيش، الزعيم السابق لتنظيم "الذئاب الرمادية"، أمام مكتبه في أنقرة في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2022 على جدول أعمال السياسة التركية، بتفاصيل الشخصيات التي تمّ اعتقالها وإطلاق سراحها، والمدّعين العامين ورؤساء النيابة الذين تمّ استبدالهم، في إشارة واضحة إلى تعقيد الملف وحساسيته.
قام دولت باهتشيلي، رئيس حزب الحركة القومية، بإعفاء أتيش، بشكل مفاجئ، في 2 نيسان (أبريل) 2020، بعد فترة قصيرة من تعيينه في 9 كانون الثاني (يناير) 2019، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لرؤساء الجناح المسلّح في الحزب اليميني المتطرّف. وفي حين لم يُكشف عن سبب إقالته بشكل رسمي، انتشرت مزاعم في كواليس أنقرة تردّ إقالته إلى مطالبته بتعيين بديل لباهتشيلي في أثناء وجود الأخير في المستشفى، وقد أبلغه أعضاء الحزب بالأمر بعد تعافيه.
لم يبتعد أتيش عن السياسة رغم إقالته، فقام برحلات إقليمية عديدة، مواصلاً نشاطه السياسي، في زيارات أزعجت أحمد يغيت يلدريم، الرئيس الجديد لـ"الذئاب الرمادية" والمقرّب من "فريق اسطنبول" في حزب الحركة القومية، والنائب عن ولاية مرسين أولجاي كلاووز.
إغتيل أتيش برصاص درّاج ناري في أثناء مغادرته مكتبه في حي تشوكورامبار، في العاصمة أنقرة، فيما أصيب صديقه سلمان بوزكورت بجروح خطيرة نجا منها. وبعد الجريمة، توالت الاعتقالات وتمّ القبض على من يُعتقد أنهم متورّطون، بمن فيهم المشتبه به في تنفيذ الجريمة وسائق الدراجة النارية. وبينما تطالب المعارضة بالعدالة لسنان أتيش، يواصل زعيم حزب الحركة القومية محاولاته إبعاد شبهة الاغتيال السياسي عن الجريمة، وحماية بعض المتورّطين من مسؤولي الحزب.
تمّ احضار إراي أوزياغجي، الملقّب بـ "بابي"، الذي ارتكب الجريمة، وهو من أصحاب السوابق سُجن 21 عاماً بعد إدانته بتهم الخطف والسرقة والنهب، إلى أنقرة من قبل دوغوكان جيب، الملقّب بـ "دودو"، وهو محكوم سابق بالسجن غيابياً مدة 62 عاماً بتهمتي القتل والاتجار بالمخدرات، إلّا أنه لم يتمّ القبض عليه إلّا بعد مقتل أتيش.
علاقة الحركة القومية بالجريمة
كان ارتباط حزب الحركة القومية بالجريمة من خلال إحضار أوزياغجي إلى أنقرة بسيارة تحت حراسة ضابط شرطة العمليات الخاصة موراتجان تشولاك، المسؤول في الحزب، فيما قام أوفوك كوكتورك، العضو في مجلس إدارة ولاية إسطنبول في الحزب في حينه، بتحويل مبلغ 3000 دولار للجاني، وهو محكوم سابق أيضاً في جريمة قتل طالبة جامعية في عام 2013.
ووفق المعلومات التي تمّ الحصول عليها من مراسلات هاتف الزعيم الأسبق للذئاب الرمادية تولغاهان دميرباش، الموقوف على ذمّة التحقيق، بدأت مراقبة سنان أتيش خطوة بخطوة قبل 9 أشهر من يوم اغتياله، حيث طلب دميرباش عنوان أتيش ومعلومات عن موقعه من المناوب في مكتب جرائم القتل التابع لقسم شرطة أنقرة، وضابط الاستخبارات التركية السابق تشاغلار زورلو. كما تبين أن المشتبه فيهم استطلعوا مكان الحادث قبل أيام من موعد الجريمة.
بناءً على المعلومات المذكورة، تولّى تولغاهان دميرباش ونائبه إمري يوكسيل، المخططان الرئيسيان لعملية القتل، تهريب القاتل باصطحابه من أنقرة إلى اسطنبول، وبعدها قام النائب السابق عن ولاية مرسين في حزب الحركة القومية ومستشار الكتلة النيابية لحزب الحركة القومية بإخفاء تولغاهان دميرباش، المتّهم بتهريب القاتل، في منزله في باغليجا ومنع وحدة الشرطة التي حاولت اعتقاله من تنفيذ مهمّتها.
تمّ تضمين الأدلة المذكورة في ملف المدّعي العام مع التأكيد أن "الذئاب الرمادية" تقف وراء مقتل أتيش، حيث تؤكّد المراسلات المستعادة من هاتف تولجاهان دميرباش ذلك. وبناءً عليه، تمّ اتخاذ قرار بمنع رئيس "الذئاب الرمادية" أحمد يغيت يلدريم ورئيس ولاية أنقرة عمر شانلي، المشتبه فيهما في الملف، من السفر خارج تركيا، حيث يتّهم يلدريم بأنه "المحرّض" على القتل في هذه الجريمة، وفق تقرير الخبراء.
تعرّض أعضاء النيابة العامة المكلّفون بالتحقيقات للتهديد. وأدّعى نائب المدّعي العام دوردو أوزر، الذي أُعفي بعد 7 أشهر من رئاسته إجراءات التحقيق، بتعرّضه للتهديد المباشر من مسؤولين في حزب الحركة القومية وتنظيم "الذئاب الرمادية".
وبحسب معلومات حصل عليها "النهار العربي" من مصادر مطّلعة على التحقيقات، تمّ إعفاء أوزر بطلب مباشر من حزب الحركة القومية، لقيامه بإدراج أدلة مهمّة تتعلق بجريمة القتل في الملف، ما أدّى إلى اعتقال العديد من المشتبه فيهم من مسؤولي الحزب.
وأضافت المصادر نفسها، أن نائب رئيس النيابة العامة أحمد ألتون، الذي تمّ تكليفه بمواصلة التحقيق بدلاً من أوزر، عقد اجتماعاً سرياً مع نائب رئيس حزب الحركة القومية عزت أولفي يونتر قبل تولّيه مهمّته.
إطاحة المستشار
في نطاق التحقيق، أُلقي القبض على 21 مشتبهاً فيهم، بينهم ثلاثة ضباط شرطة وضابط سابق في الاستخبارات التركية، فيما بقي كلاووز خارج نطاق التحقيقات، بعد رفض تضمين اسمه في شهادات الجريمة والمراسلات التي تمّ استعادتها، بضغط من حزب الحركة القومية، وفق ما أكّدت زوجة المغدور والشهود الآخرين.
لكن، بعد مطالبة المعارضة التركية بالكشف عن ملابسات الجريمة من خلال تحقيق حرّ ونزيه، وبعد محاولات الرئيس التركي الضغط على شريكه الرافض خطواته الخاصة بالتطبيع مع المعارضة والتفاهم معها على الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، تمّ تضمين اسم كلاووز في التحقيقات، فأُعفي من منصب مستشار الكتلة البرلمانية لحزب الحركة القومية، بعد زيارة قام بها وزير الداخلية التركي علي يرليكايا لرئيس الحزب دولت باهتشيلي.
وهكذا، ارتفع عدد المشتبه فيهم في الجريمة إلى 22، فيما يتمّ التحقيق مع 39 آخرين، مُنِع 17 منهم من السفر، ويخضعون للتحقيق في ملف منفصل عن الملف الرئيسي للجريمة.
انقلاب أو لا انقلاب؟
تكشف الفضائح التي رافقت قضية زعيم المافيا أيهان بورا كابلان عن عمق التداخل في علاقة السياسة بالأمن والمافيا في تركيا. وصف باهتشيلي التحقيقات وتفاصيلها بالمؤامرة على "تحالف الشعب"، لكن شريكه الرئيس التركي لم ينضمّ لمزاعم الانقلاب والتآمر، بل أكّد رفضه "الوصاية البيروقراطية"، في إشارة إلى مسؤولي القصر الرئاسي المقرّبين من حزب الحركة القومية، من رافضي سير عمليات التحقيق.
اتُّهم قادة الشرطة الذين قبضوا على كابلان بالانقلاب على السلطة السياسية، وتمّ اعتقالهم.
في ليلة محاولة الانقلاب في 15 تموز (يوليو)، التقط كابلان ورجاله صوراً بأسلحتهم الحربية أمام مقر قناة "تي ري تي" التركية الرسمية، التي حضر إليه بطلب من وزير الداخلية السابق ووزير العمل في حينه سليمان صويلو، المقرّب من حزب الحركة القومية.
ويعدّ كابلان، المتورّط في قضايا خطف والاتجار بالمخدّرات والاستيلاء على الأموال، باستخدام القوة وتبييض الأموال والتهرّب من دفع الضرائب، الخاصرة الرخوة لتحالف الشعب لجهة تورّط العديد من الشخصيات البارزة في سلكي القضاء والأمن في التعاون معه، ومساعدته في تهريب الشاهد الملك في قضيّته خارج البلد، بعدما قبل بصفقة الإدلاء بشهادته ضدّ زعيمه مقابل التخفيف من أحكامه.
تبدو قضية كابلان ظاهرياً عن الفساد في جهاز الشرطة والقضاء في تركيا، لكنها في المضمون تكشف خفايا الصراع بين أركان الدولة المقرّبين من حزب الحركة القومية في مواجهة المسؤولين الحاليين ومؤيّدي مسار التطبيع مع المعارضة، والليونة في السياسة.
استغلّ حزب الحركة القومية ملف كابلان للحدّ من توسّع التحقيق في مقتل أتيش، مظهراً قوّته في وجه قوة بيروقراطيي حزب العدالة والتنمية. وهذا ما يفسّر عدم تأييد أردوغان ووزير داخليّته يرليكايا مزاعم الانقلاب والتآمر التي أطلقها باهتشيلي، في وصفه من قاموا بتوقيف كابلان باتّباع تكتيكات "منظمة فتح الله غولن" المصنّفة إرهابية في البلاد.