جدّد مقطع فيديو تداوله الناشطون الأتراك على نطاق واسع، يظهر فيه أحد أفراد "جماعة التبليغ" في حيّ من أحياء اسطنبول، الجدل الذي أحدثه إقرار وزارة التربية المنهج الدراسي الجديد حول "أسلمة البلاد"، بحسب تعبير الرافضين للمنهج والخطوات الحكومية المماثلة.
إن دعم الجماعات الإسلامية، والتساهل مع نشاطاتها، والإكثار من عدد المساجد والمدارس الدينية، والقوانين الخاصة بالتشدّد في منح أذونات لإقامة الحفلات الفنية والمطاعم المخوّلة بتقديم المشروبات الكحولية، وغير ذلك من الخطوات، تدفع بفئات واسعة من المجتمع التركي إلى التحذير من عواقب "تغيير أيديولوجيات المجتمع" و"فرض أنماط الحياة" على المواطنين.
"القصير حرام"
أثار مقطع فيديو يُظهر "تبليغيّاً" معمّراً بزي ديني وبعكّاز ولحية طويلة يتجوّل برفقة أحد أتباعه في منطقة غالاطا السياحية وسط إسطنبول، واعظاً النساء والرجال بضرورة الاحتشام في اللبس، والابتعاد عن اللبس القصير، ضجّة واسعة في منصّات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام المعارضة، وجدّد الاتّهامات للحكومة التركية بالعمل ضدّ النهج العلماني وقيم الجمهورية التي ينص عليها دستور البلاد.
وشهدت تركيا في السنوات الأخيرة تصاعداً في نشاط الجماعات الدينية، وخصوصاً "التبليغيين"، وهم جماعة تأسّست في الهند في الربع الأول من القرن الماضي، ووصلت إلى تركيا في حقبة مشروع "الحزام الأخضر" الذي كان يهدف إلى تشكيل حزام ديني إسلامي ابتداءً بأفغانستان مروراً بإيران وانتهاءً بتركيا، ليشكّل سداً أمام تمدّد الشيوعية نحو جنوب آسيا والشرق الأوسط.
نصّاً، يحظّر القانون التركي نشاط الجماعات الدينية، ويجرّم مؤسسي هذه الجماعات وقادتها ومسؤوليها. لكن تاريخ الجمهورية حافل بالتنسيق المستتر بين المؤسستين الأمنية والعسكرية التركية مع هذه الجماعات منذ منتصف القرن الماضي، على الرغم من معارضتهما العلنية لها.
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002، مقدماً نفسه للجمهور التركي والرأي العام العالمي آنذاك بأيديولوجيّته "الإسلامية الليبرالية"، انتقل هذا التنسيق إلى المستوى الحكومي ليتحوّل إلى سياسة علنية للدولة.
أسلمة واضحة
ترى الأكاديمية التركية شيبنيم غوموشجو، أن أسلمة تركيا أصبحت "واضحة بعدما كانت خفية وتدريجية سابقاً، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، لم تعد السلطات تخفي توجّهاتها الإسلامية".
وتقول غوموشجو، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ميدلبري في الولايات المتّحدة الأميركية: "من الناحية القانونية، لا يوجد ما يشير إلى أن تركيا صارت دولة إسلامية. دستورياً، تظل الجمهورية علمانية، وكذلك الطريقة التي يدير بها الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه شؤون البلاد، وحتى في الآونة الأخيرة، كرّر الرئيس أنه وحكومته لم يتدخّلا في حياة الناس الخاصة، لكن العلمانية أصبحت مجرد واجهة".
موارد مسخّرة
مع فوز حزب "الشعب الجمهوري" ببلدية اسطنبول في انتخابات عام 2019، بعد نحو ربع قرن من سيطرة حزب "العدالة والتنمية" عليها، كشف أكرم إمام أوغلو، رئيسها الذي أُعيد انتخابه في الانتخابات البلدية الأخيرة، عن إنفاق بلديته نحو 170 مليون دولار على الجماعات الدينية.
وحصلت مؤسسة الشباب التركي (TÜGVA)، التي يضمّ مجلس أمنائها بلال أردوغان، نجل الرئيس، على مساعدات من بلدية اسطنبول بقيمة تصل إلى 15 مليون دولار، كما حصلت مؤسسة خدمة الشباب والتعليم التركية (TÜRGEV)، التي تتبع مؤسسة الشباب التركي وتترأسها إسراء البيرق، ابنة الرئيس، على مبلغ يصل إلى 10 ملايين دولار. وكانت مؤسسة ISEGEV، التي أسسها بلال أردوغان، قد حصلت في عام 2011 على إعفاء ضريبي بقرار حكومي، قبل أن يتغيّر اسمها إلى TÜRGEV.
وحصلت جمعية التكنولوجيا التركية (T3) على دعم مالي بقيمة 8 ملايين دولار من بلدية إسطنبول في حينه، علماً أن رئيس مجلس أمناء المؤسسة هو سلجوق بيرقدار، صهر الرئيس والمدير الفني لشركة "بايكار ماكينا"، مصنّعة مسيّرات "بيرقدار".
إضافة إلى ذلك، مُنحت المؤسسات والجماعات الدينية والجمعيات المقرّبة من السلطة، عقارات عائدة للبلديات بإيجارات رمزية، بعضها لمدد تصل إلى 49 عاماً، حيث أعلنت رئيسة بلدية سكودار مؤخّراً، وهي البلدية التي انتقلت إلى المعارضة في الانتخابات الأخيرة بعد نحو 40 عاماً من سيطرة حزب العدالة والتنمية عليها، عن نيّتها استعادة 6 عقارات عائدة لبلديتها، مُنحت سابقاً لجماعات دينية على شكل هبات.
خريطة طريق
تتّبع الحكومة التركية في سعيها إلى "أسلمة البلاد" آليات مختلفة، تدعمها بخطوات عملية تشير إلى رغبتها في تحويل هذا الهدف إلى خريطة طريق تفرض "الأسلمة" من أعلى إلى أسفل، أي من السلطة إلى المجتمع، خلافاً للعديد من الحركات الإسلامية التي وصلت إلى السلطة من خلال مطالبات المجتمع بقيادات إسلامية.
سعى أردوغان منذ إعادة انتخابه رئيساً للوزراء في عام 2011 إلى تغيير هيكل الدولة، ليكون أكثر اتّساقاً مع سياسات "الأسلمة"، بعد تحييد المؤسسة الكمالية القديمة إلى حدّ كبير، وتحييد الجيش منذ عام 2009، والسلطة القضائية منذ عام 2010. ويمكن اعتبار الانتقال إلى النظام الرئاسي جزءاً من هذا التحوّل.
ودعم أردوغان ذلك بخطوات شعبوية، منها على سبيل المثال تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى جامع وفتحها للصلاة، بعدما كانت متحفاً بقرار من مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك منذ عام 1934، إضافة إلى بناء مسجد تقسيم، تنفيذاً لأحد المطالب التي ألحّت عليها الحركة الإسلامية في البلاد منذ التسعينات، وبناء مسجد تشامليجا، وتغيير أسماء الشوارع لتحمل تسميات مرجعيات إسلامية.
"ثانويات الإمام الخطيب"
ركّزت الحكومة على وزارة التربية ومديرية الشؤون الدينية (تقوم بمهام وزارة الأوقاف)، وهما مؤسستان أساسيتان في الدولة، بزيادة الدورات الدراسية ذات المحتوى الديني، وزيادة عدد ساعاتها، ونشر مدارس "الإمام الخطيب" الثانوية، وتوجيه العديد من الطلاب إلى هذه المدارس بدلاً من الثانويات التقليدية، حتى أصبحت هذه المدارس الذراع الأيديولوجية للدولة، بعد أن ارتفع عددها بنسبة 300 في المئة في السنوات العشر الأخيرة.
كما حرصت وزارة التربية والتعليم على وضع ثانويات "الإمام الخطيب" في مقدّمة "مدارس النخبة" في 61 ولاية من إجمالي 81 ولاية، وبالتالي توجيه أفضل الطلاب إليها. وذكرت وكالة "رويترز" للأنباء في عام 2018، أن الحكومة التركية خصّصت 23 في المئة من ميزانية التعليم لمدارس "الإمام الخطيب الثانوية"، على الرغم من أنها كانت تلبّي احتياجات 11 في المئة فقط من طلاب المدارس الثانوية في ذلك الوقت. لكن عدد طلاب هذه المدارس ارتفع خلال السنوات العشر الأخيرة من 60 ألفاً إلى أكثر من 600 ألف.
لا تحظى ثانويات "الإمام الخطيب" بشعبية كبيرة بين أهالي الطلاب، كما من ناخبي حزب العدالة والتنمية ومسؤوليه، الذين يفضّلون إرسال أولادهم إلى مدارس خاصة، لكنها تُعتبر الخيار الوحيد بالنسبة إلى العائلات الفقيرة، وغير القادرة على تسجيل أبنائها في مدارس خاصة أو أخرى تقليدية بعيدة من مساكنها.
شكّل خريجو هذه الثانويات المورد البشري لأسلمة المجتمع، من خلال رفد الحكومات المتعاقبة البيروقراطيين والموظفين المدنيين لإدارة مؤسساتها. وعلى الرغم من نتائجها العلمية والتعليمية المتواضعة بشكل عام، تستمر هذه المؤسسات في تلقّي موارد من الدولة أكثر من المدارس التقليدية، لضمان استمرارية هدف "الأسلمة".
القرن التركي
تمّ تخصيص ميزانية وقدرها 3.7 مليارات دولار تقريباً للتعليم الديني غير الرسمي لعام 2024، في حين زادت مديرية الشؤون الدينية ميزانيتها بشكل كبير، خصوصاً مع التغييرات القانونية في عامي 2010 و2011، وزيادة عدد موظفيها، لتزيد في الوقت نفسه من مساحة نفوذها. وتجاوزت ميزانية مديرية الشؤون الدينية لعام 2024 ميزانيات 6 وزارات سيادية، منها الداخلية والخارجية والسياحة والثقافة والتكنولوجيا والتجارة، لتبلغ نحو 3.5 مليارات دولار تقريباً.
وأعلنت وزارة التربية التركية عن منهجها التعليمي الجديد للعام الدراسي 2024-2025، تحت مسمّى "نموذج تعليم القرن التركي"، والذي جذب انتقادات واسعة واتّهامات "بإعداده بأجندة أيديولوجية بدلاً من تصحيح أوجه القصور في البرامج الحالية".
و"قرن تركيا" هو شعار حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان في الانتخابات العامة لعام 2023، وهذا يتعارض مع المبدأ الأساسي للتعليم الوطني والمتمثل بمبدأ "المساواة".
ويركّز المنهج الجديد على تعبيرات مثل "الفطرة السليمة" و"القلب السليم" و"الفضيلة"، بدلاً من المبادئ العالمية وحقوق الإنسان وحقوق الطفل.
من دون تغيير النصوص القانونية، وباستخدام سلطة الدولة، تفرض الحكومة التركية الأسلمة لتكون أكثر وضوحاً وأكثر انتشاراً، من خلال استخدام مؤسسات الدولة، ومنح الإسلاميين الأولوية في جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية، على حساب المواطنين العلمانيين.
لم تحظّر السلطات التركية المشروبات الكحولية، لكنها فرضت ضرائب باهظة عليها، كجزء من عملية فرض الأسلمة من الأعلى إلى الأسفل، والتي أعلن عنها أردوغان بكل وضوح خلال الانتخابات البرلمانية لعام 2011، حين فاز حزب العدالة والتنمية بنحو 50 في المئة من الأصوات، فأعلن عن نيّته "بتربية جيل تقيّ يحمل قرآناً في يد وجهاز كمبيوتر في اليد الأخرى".