النهار

العنف بين السوريين والأتراك "جمرٌ تحت رماد" يؤجّجه انطلاق مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة
سركيس قصارجيان
المصدر: النهار العربي
تعرّضت المحال التجارية المملوكة أو المستثمرة من السوريين في مدن هاتاي وبورصة وكلس وقونيا وأورفا وأضنة وعنتاب وإزمير وأنطاليا واسطنبول، لاعتداءات وحرق
العنف بين السوريين والأتراك "جمرٌ تحت رماد"
يؤجّجه انطلاق مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة
متظاهرون سوريون يحرقون شاحنة تركية في مدينة الباب السورية. (أ ف ب)
A+   A-
تحولت ادعاءات اعتداء لاجئ سوري جنسياً على طفلة سورية تبلغ من العمر 7 سنوات في قيصرية التركية، إلى اعتداءات وإحراق متعمد لمحال اللاجئين السوريين وسيّاراتهم في المدينة التي تعرف بطابعها السكاني المحافظ دينياً.
 
وفيما تواصلت الأعمال الانتقامية في المدينة لليلة الثانية على التوالي، جاءت الاحتجاجات المناهضة لانطلاق مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة في شمال سوريا، لتصعّد من العنف ضد السوريين والذي امتد إلى 10 ولايات أخرى على الأقل.

 
فقد تعرّضت المحال التجارية المملوكة أو المستثمرة من السوريين في مدن هاتاي (لواء إسكندرون) وبورصة وكلس وقونيا وأورفا وأضنة وعنتاب وإزمير وأنطاليا واسطنبول، لاعتداءات وحرق، فيما سجّلت مدينتا عنتاب وهاتاي الهجمات الأكثر شراسة وعنصرية، بحسب مصادر أهلية تواصل معها "النهار العربي".
 
 محتجون سوريون على تقارب تركيا مع النظام السوري في شمال غرب سوريا بالقرب من الحدود التركية  (أ ف ب)
 
وبالتزامن مع الاعتداء على السوريين وممتلكاتهم، نظّمت تظاهرات احتجاجية بشعارات مناهضة للاجئين ومطالبة بطردهم ومعاقبتهم انتقاماً لاعتداء سوريين قاطنين في المدن الحدودية داخل سوريا على آليات وجنود أتراك وإنزالهم العلم التركي من على بعض المباني التابعة للفصائل المسلحة الموالية لتركيا أو المديريات التي أحدثتها أنقرة في المنطقة.
 
وأكد المهندس حاتم ج، وهو من أبناء مدينة دير الزور السورية المقيمين في عنتاب منذ عام 2015، أن "أحياء عدة في المدينة شهدت تجمّعات لأتراك بأعداد كبيرة رددت شعارات مناهضة للاجئين السوريين، وألحقت أضراراً بمحالّهم التجارية وسيّاراتهم، قبل تدخّل الشرطة التركية في محاولة لمنع اتساع نطاق الأحداث".
 
وروى حاتم الذي تحدّث إلى "النهار العربي" شريطة عدم الكشف عن اسمه كاملاً خوفاً من أعمال انتقامية أن "عدداً كبيراً من سكان مدينة عنتاب، التي تعرف بطابعها المحافظ وتأييدها لحزب العدالة والتنمية، تفاعلوا مع الاحتجاجات مرددين شعار: سعيد من قال أنا تركي، وهو شعار يردده الكماليون عادة".
 
وبحسب حاتم، فإن الرعب لا يزال سائداً لدى السوريين الذين امتنع معظمهم عن الذهاب إلى أعمالهم وفتح محالّهم خوفاً من أعمال انتقامية أو استفزازات قد تؤدي إلى انفجار الأوضاع. فشارع أنونو الذي يعتبر من أكثر الأسواق ازدحاماً بالمحال السورية أغلق بمعظمه، والوضع ذاته بالنسبة إلى مناطق غازي كينت وجنديريسي، فيما تعرضت منازل لسوريين في شاهين باي وشهيد كامل وغيرها للرشق بالحجارة، ما أدى إلى تحطيم نوافذ بعضها".
 
وتحتضن عنتاب عشرات الآلاف من أصحاب الورش والعمال السوريين في قطاع النسيج وتصليح السيارات خاصة.
وشارك المتحدث باسم مجلس بلدية عنتاب الكبرى حسن شنجان، وهي من البلديات الكبرى النادرة التي نجح حزب "العدالة والتنمية" في الاحتفاظ بها بعد الانتخابات الأخيرة نهاية آذار (مارس) الماضي، مقطع فيديو لمجموعة من المحتجين المعتدين على محال للسوريين مرفقة بعبارة "الأعزاء سكان عنتاب، من فضلكم أعيدوا أبناءكم إلى منازلهم، لا تدعوهم عرضة للمحاولات الاستفزازية. أيها الشباب، عودوا إلى منازلكم".
 
محل يملكه سوريون أحرقه متعصبون أتراك في قيصرية  
 
وفي الريحانية في ولاية هاتاي (لواء إسكندرون)، قامت مجموعة من المحتجين بإحراق متاجر متجاورة تعود ملكيّتها للاجئين سوريين، وبالمثل أقدمت مجموعة على إحراق متاجر لسوريين في منطقة كيرخان، مرددة شعارات تطالب بخروجهم من البلاد.
كما سجّلت حالة طعن لسوري في عنتاب، وضرب مبرح لآخر في أضنة، فيما رفع محتجون في مدينة إزمير الساحلية لافتة علقّوها على أحد الجسور الرئيسية في المدينة كتب عليها "لا أريد لاجئين في بلدي".

نار تحت الرماد
ويشهد ملف اللاجئين السوريين في تركيا تغيرات منذ خسارة حزب "العدالة والتنمية" بلديتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية عام 2019، والتي اعتبر السوريون في حينه من أهم أسباب توجّه الأتراك للتوصيت لمرشّح حزب الشعب الجمهوري منهين ربع قرن من سيطرة حزب "العدالة والتنمية" على أكبر بلديتين في البلاد.
 
لكن تحوّلات جذرية شهدها الملف بعد خسارة السلطة للانتخابات البلدية الأخيرة في آذار (مارس الماضي)، حين فشل في الاحتفاظ بباقي البلديات الكبرى، والأهم بالمعاقل التقليدية للتيار الديني المحافظ والمؤيد لأردوغان.
 
بالنظر إلى خريطة أعمال الشغب الأخيرة والاحتجاجات على وجود السوريين، فإن انضمام مدن وولايات مؤيدة للسلطة في كل الاستحقاقات الدستورية كعنتاب ومرعش والريحانية وقيصرية وحتى أضنة وغيرها، يشير إلى تبدّل كبير في المزاج الشعبي الموالي لـ"تحالف الشعب" الذي يضم كلاً من "العدالة والتنمية" الإسلامي وحزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف.
 
وكسرت خريطة توزع الاحتجاجات الأخيرة الصورة النمطية التي رسمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول معارضة العلمانيين والكماليين للاجئين مقابل ترحيب الإسلاميين واليمين المحافظ بهم على أرضية مقولات دينية من قبيل "الأنصار والمهاجرين" وغيرها.
 
في منشور له عبر منصّة "فايسبوك"، يشير الحقوقي السوري الناشط في قضايا اللاجئين السوريين في تركيا طه الغازي إلى ازدياد نشاط عناصر مديريات الهجرة في مدينتي عنتاب وكلّس الحدوديتين مع سوريا لترحيل المئات من اللاجئين السوريين إلى مناطق الشمال السوري قسراً، منتهكين المواد والفقرات القانونية لنظام الحماية الموقتة وحقوق الإنسان.
 
وينقل الغازي عن الوسائل الإعلامية التركية والسورية تأكيدها أنّ ما تشهده مدينة عنتاب من عمليات ترحيل قسرية جاءت بعد بيان نشرته 41 منظمة مجتمع مدني تركية في 17 من شهر حزيران (يونيو) الماضي.
 
وحذّرت هذه المنظمات من تأثير وجود اللاجئين السوريين في مدن مثل عنتاب وغيرها على التركيبة الديموغرافية لهذه المدن، قائلة إن نسبة الولادات العالية للسوريين ستغيّر نسبتهم في هذه المدن بعد 20 عاماً إلى النصف، واصفة الحياة في المدينة بأنها "غدت لا تطاق" بسبب وجود اللاجئين السوريين فيها.
 
ويلفت الغازي إلى أن "بيان المنظمات التركية جاء بعد أيام قليلة من تصريحات زعيم حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، دولت باهتشيلي، الذي شدد على إلزامية تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، لأنهم باتوا يشكلون خطراً على ديموغرافية المجتمع التركي".
 
وانتقد الغازي قيام "بعض الكوادر ووسائل الإعلام السورية بتسويق انتهاكات رئاسة الهجرة بحق اللاجئين السوريين المقيمين في عنتاب على أنّها نتيجة خطابات قادة المعارضة التركية، من دون أن تتجرأ على ذكر حقيقة أنّ بيان المنظمات التركية جاء بناءً وعقب تصريحات زعيم حزب الحركة القومية، حليف الرئيس أردوغان، ومن دون أن تتطرق إلى ما أشار إليه وزير الداخلية علي يرليكايا في لقائه مع المنظمات التركية وتأكيده أن كل القرارات و السلوكيات الوظيفية لمديريات الهجرة هي بتوجيه من الرئيس شخصياً".

ورقة اللاجئين لا تزال رابحة
ويحاول الرئيس التركي لعب دور متوازن بين مجاراة الرأي العام الرافض للوجود السوري عموماً، وللاجئين خصوصاً، وتعهّداته بإبقاء اللاجئين في بلاده من جهة ثانية، وتوطينهم في المناطق الحدودية جنوب البلاد محاولاً إحداث تغيير ديموغرافي في الشمال السوري ذي الغالبية السكّانية الكردية.
 
وجمع الاتحاد الأوروبي تبرّعات بقيمة 5 مليارات يورو لدعم اللاجئين السوريين والدول المضيفة تركيا ولبنان والعراق والأردن، منها 2.1 مليار يورو لتركيا شرط ألّا تتم "إعادة اللاجئين السوريين قسراً" إلى بلادهم.
 
وقدّمت المفوضية الأوروبية ما يقرب من 10 مليارات يورو كمساعدات للاجئين في تركيا منذ بدء الأزمة الحرب السورية في عام 2011، 6.2 مليارات يورو في نطاق اتفاقية إعادة قبول اللاجئين الموقعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي في عام 2016.
 
كما يتلقّى ما يقرب من مليوني لاجئ في تركيا مساعدات نقدية من الاتحاد الأوروبي لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وهذه الأموال تصبّ على شكل نقد أجنبي في السوق التركية. ووفقاً لبيانات الاتحاد الأوروبي، تم تقديم ما يقرب من 33.4 مليون خدمة رعاية صحية أولية للاجئين في تركيا منذ عام 2016، كما تم وضع 4 آلاف عامل طبي و548 منشأة صحية و155 مدرسة جديدة في خدمتهم.
 
ويعتقد الصحافي التركي جاغلار تيكين في حديث إلى "النهار العربي" أن "ملف اللاجئين سيستمر في كونه ورقة للاستثمار السياسي، لكن كلفته على السلطة تزيد يوماً بعد يوم، ولا يمكن توقّع الاستغناء عنه إلا حينما تكون تكاليفه أكبر من عائداته، وهو ليس كذلك حالياً".
 
وفيما خسرت ورقة اللاجئين السوريين قدرتها على التأثير في السياسة الداخلية السورية، لتتحول إلى أزمة داخلية تركية، فإنها لا تزال ورقة رابحة للرئيس التركي في مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي والدول الغربية عامةً، بخاصة في ظل المساعي التي يبذلها وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشيك من أجل الحصول على مصادر مالية خارجية من خلال الجهات الاستثمارية والصناديق الائتمانية العالمية.

اقرأ في النهار Premium