تبخرت الآمال التركية ببلوغ الدور النصف النهائي لبطولة أوروبا لكرة القدم بعد خسارة المنتخب التركي أمام نظيره الهولندي أمس في مباراة مثيرة بأحداثها الكروية والسياسية على حد سواء. لكن المناقشات التي فجّرها المدافع التركي مريح دميرال برفعه إشارة "الذئاب الرمادية" احتفالاً بأحد هدفيه في مرمى النمسا، خلال المباراة السابقة في ربع النهائي قبل أيام بقيت تصنع الحدث في الإعلام والرأي العام التركيين.
كرة القدم المسيّسة
يصعب الفصل بين الرياضة والسياسية على مستوى العالم بشكل عام، لكن مستوى التداخل ودرجته يتفاوتان من دولة إلى أخرى، ويبلغ هذا التداخل في تركيا درجات عالية.
ترافقت فترة التسعينات من القرن الماضي في تركيا، والمعروفة بعهد الاغتيالات السياسية والجرائم المجهولة الفاعل ومرحلة الحرب مع "حزب العمال الكردستاني"، مع تركيز كبير على الألعاب الرياضية الجماعية، وخصوصاً كرة القدم، كوسيلة لإلهاء الرأي العالم وخلق قواسم مشتركة في مجتمع متصدّع عرقياً بين الأتراك والأكراد، ودينياً بين الإسلاميين والعلمانيين، وإيديولوجياً بين اليمين واليسار وغيرها من الاختلافات الصدامية.
في هذه الفترة، بدأت فرق كرة القدم العريقة كـ "غلاطة سراي" و"فنار بختشه" و"بشيكتاش" استقدام لاعبين معروفين على مستوى العالم لترن أسماؤها في البطولات القارية ويتعرّف جمهور كرة القدم العالمي الى الفرق التركية للمرة الأولى، فيما اتّسمت هذه الفرق بالميول الطاغية لأنصار كل منها، بحسب الخلفية التاريخية والجغرافية لكل فريق.
مع وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة، استمرت الرياضة في كونها الشغل الشاغل لكتلة جماهيرية واسعة اختلفت في ما بينها في البطولات المحلية واتّحدت في دعم الفرق التركية والمنتخبات الوطنية، بخاصة في المباريات مع الفرق اليونانية لكرتي القدم والسلة.
وركّز الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على كرة القدم في سياساته، مستغلاً خلفيّته الرياضية كلاعب كرة سابق، فكان ضيف الشرف في افتتاح استاد الحمدانية الدولي في حلب عام 2007 إعلاناً عن دخول العلاقات السورية - التركية مرحلة شهر العسل.
كما اعتمدت أنقرة ما عرف بـ"دبلوماسية كرة القدم" في التطبيع مع أرمينيا، في المرتين الأولى والثانية، فيما شهد افتتاح بطولة كأس العالم الأخيرة قبل عامين اللقاء الأول بين الرئيس التركي ونظيره المصري في العاصمة القطرية الدوحة.
لكن، في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد سياسات الاستقطاب داخل تركيا، نتيجة الخطاب الذي اعتمده "تحالف الشعب" المكون من الشراكة بين حزبي "العدالة والتنمية" الإسلامي، و"الحركة القومية" اليميني المتطرف، انزلقت الرياضة إلى مستويات غير مسبوقة من الانقسام الذي وصل في بعض الأحيان إلى مستوى العداء.
فقد شهدت مواجهات فريق "آمد سبور" من مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية مع فرق معروفة بجماهيرها ذات الميول القومية توتّرات وأعمال عنف، كما الحال في مباراة الفريق الكردي مع "بورصا سبور" حينما رفعت جماهير الأخير لافتات لأحد أخطر رجالات المافيا المتعاونين مع الاستخبارات التركية في فترة التسعينات والمسماة بـ "يشيل" (الأخضر) المكلّف بتصفية رجال الأعمال الأكراد وصورة للسيارة من نوع "تاوروس" التي كانت تستخدمها الاستخبارات التركية في خطف النشطاء والشخصيات البارزة التركية والذي غالباً ما كان ينتهي باختفائهم.
كذلك شهدت الملاعب التركية تصاعداً في العنف داخل المساحة الخضراء، حيث أحدث المقطع المصور لاعتداء رئيس نادي "أنقرة غوجو"، وهو نائب سابق عن حزب "العدالة والتمنية"، على حكم المباراة لدرجة نقل الأخير إلى المستشفى، صدمة لدى الرأي العام الرياضي على مستوى العالم، وهي حوادث تكررت في مباريات مختلفة من قبل مسؤولين رياضيين في أندية تعرف بقرب مجالس إدارتها من الحكومة التركية.
إشارة الذئاب الرمادية
عكّرت إشارة "الذئاب الرمادية" التي رفعها المدافع التركي مريح دميرال احتفالاً بهدفه الثاني ضد النمسا في مباراة فريقه ما قبل الأخيرة، والتي انتهت بإيقافه عن اللعب لمبارتين، صفو المسيرة الناجحة للمنتخب التركي في كأس أوروبا 2024 الذي تستضيفه ألمانيا، وأشعلت نقاشات داخلية وجدلاً على المستوى الدبلوماسي خارجياً.
وتعرف الإشارة كشعار لليمين المتطرف التركي، وترتبط، في ذاكرة اليساريين والأقليات الدينية والعرقية في تركيا، بالجرائم المرتبكة بحقّهم على مدى العقود الماضية. فهي الإشارة التي رفعتها الحشود في مجرزتي "تشوروم" و"مرعش" وقبل حرق المثقّفين العلويين والكرد في مجزرة "ماديماك" الشهيرة منتصف التسعينات، ولوّح بها قاتل الصحافي من أصل أرمني هرانت دينك عام 2007، وكررها العديد من المتّهمين بجرائم قتل واغتصاب في المناطق ذات الغالبية الكردية خلال جلسات محاكماتهم، بالإضافة إلى تبنّيها من قبل زعماء المافيا وتجّار المخدّرات في البلاد عبر صورهم الخاصة المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول الصحافي التركي المقيم في ألمانيا جان دوندار: "لست قوميا، وليس لدي اهتمام كبير بكرة القدم، لكني بالطبع تابعت مباراة تركيا والنمسا وكنت سعيداً جداً بفوز تركيا، الا أن فرحتي تلاشت خلال دقائق، مع إشارة دميرال، التي حوّلت هدف النصر المبهج إلى ذئب مرعب، وكأننا نشهد حدثاً سياسياً، لا مباراة كرة قدم".
رفض دميرال وجود خلفية سياسية لإشارته، قائلاً إنه أراد إظهار مدى سعادته بالهدف وبادل الجماهير التي كانت تحيّيه على المدرّجات بالتحيّة نفسها.
يعتبر دميرال المولود في أوروبا، واللاعب في الدوري السعودي، من أصحاب السوابق في هذا المضمار، فقد قام خلال لعبه مع فريق "يوفنتوس" الإيطالي بأداء التحيّة العسكرية إظهاراً لدعمه العملية العسكرية التركية داخل الأراضي السورية، ما أدّى إلى استغناء الفريق عن خدماته، بحسب بعض المحللين الأتراك.
وردّاً على تصريحات دميرال يعتقد دوندار أن "معظم الناس في تركيا وخارجها لم يكونوا سعداء، فالفرحة بالفوز، طغت عليها حركة ترمز إلى نسبة الـ 5% من القوميين المتطرفين، عبر إشارة عنصرية قسّمت الفريق والجماهير والبلد، ووضعت مستقبل الفريق في خطر".
"الذئاب الرمادية" شعار سياسي
وأعلن الرئيس أردوغان عزمه على حضور مباراة هولندا شخصياً، وأكد إدانته العقوبة الأوروبية بحق دميرال، قائلاً: "لا أحد منا يسأل لماذا تضع ألمانيا النسر وفرنسا الديك على قميصها، لماذا يتدخّلون في إشارة ترمز إلى الأتراك؟"، كما طالب شريكه في السلطة دولت باهتشيلي بـ "بسحب المنتخب ردّاً على المواقف العنصرية الأوروبية وابقاء الفريق الهولندي وحيداً ليلة المباراة في أرضية الملعب".
رأي أردوغان لاقى تأييداً من العديد من الشخصيات اليمينية التركية، التي دافعت عن اللاعب التركي بالتأكيد على كون الإشارة "وطنية وجامعة لكل الأتراك وليست خاصة بجهة أو حزب أو نهج سياسي".
يرفض الصحافي التركي قدري غورسيل دفاع أردوغان المتمثّل بالنسر والديك قائلاً: "نعم لا أحد يسألهم عن ذلك، كما أن لا أحد يحاسبنا على وضع الهلال والنجمة على قمصاننا. النسر والديك رمزان وطنيان لتلك الدول، ورمزنا الوطني في تركيا الهلال والنجمة وعلمنا، وليس إشارة تعتبر رمزاً خاصاً لحزب سياسي متطرف".
وبالعودة الى الوراء قليلا، يؤكد بيان صادر عن وزارة الخارجية التركية عام 2019، ردّاً على قرار دول أوروبية حظر إشارة "الذئاب الرمادية"، ان "الإشارة عائدة الى حزب سياسي وليست رمزاً يعبّر عن جميع الأتراك"، وجاء في البيان في حينه: "تأسف تركيا لاعتبار بعض الدول شعاراً خاصاً بحزب سياسي إشارة عنصرية ووصفها بالإرهابية".
اما أستاذ التاريخ الدكتور محمد أيفي تشامان فيؤكد أن "الذئب ورد في الأشعار والميثولوجيا التركية، لكن الإشارة المتداولة ليست تاريخية كما يحاول البعض تصويرها، بل أساسها بوذي وهي منتشرة لدى العديد من الأعراق والأقوام وليست خاصة بتركيا فقط".
الإشارة ظهرت للمرة الأولى في تركيا في عام 1991، حينما زارت مجموعة من النساء الأذربيجانيات الزعيم السابق لحزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف قلب أرسلان توركيش، حيث قمن برفع هذه الإشارة خلال التقاط صورة تذكارية معه، قبل أن يتبنّاها توركيش كرمز لحزبه.
وتوضح الصحافية الرياضية التركية لوبي عيار في حديث إلى "النهار العربي" ان "الذئب رمز تركي لكن الإشارة رمز سياسي يعود إلى جهة سياسية ويرتبط بالذاكرة التركية بسلسلة من الأحداث المأسوية، ولا يحقّ لأي لاعب رفع إشارات فئوية في صفوف المنتخب الذي يجب أن يكون جامعاً وليس خاصاً بطرف سياسي دون آخر".
الانقسام الرياضي الحاد مستمر
الانقسام الحالي ليس الأول لجهة الاختلاف على تأييد منتخب وطني في تركيا. فقد شهدت مسيرة فريق الكرة الطائرة للسيدات قبل تتويجهنّ ببطولة العالم، الكثير من المناقشات لجهة إصرارهنّ على انتمائهنّ "الأتاتوركي" من خلال تصريحاتهن وصورهنّ عبر حسابات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى مواقفهن السياسية والاجتماعية كالإفصاح عن الميول الجنسية المزدوجة لإحدى اللاعبات.
وواجه فريق السيّدات انتقادات حادة من الجناح الإسلامي والمحافظ في البلاد، فيما اتّهم مدير الفريق مؤسسات حكومية بالضغط عليهن، وذلك حين رفضت الخطوط الجوية التركية، الراعي الرسمي للفريق، نقلهن إلى الولايات المتّحدة قبل المباراة النهائية عبر قسم رجال الأعمال، واضطرار اللاعبات الطويلات القامة للجلوس لساعات طويلة في مقاعد ذات مسافات قريبة.
في المقابل تحوّل الفريق إلى رمز وأداة استفزاز من قبل العلمانيين والأتاتوركيين في البلاد، الذين تداولوا صور اللاعبات ومقاطع الفيديو التي تظهرهن أثناء ترديدهن الأغاني والأناشيد القومية، بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي ظل هذا الانقسام العميق قد يكون جديراً بالذكر أيضاً أن احتفال دميرال تزامن مع بدء محاكمة 22 متّهماً مقرّباً من حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف باغتيال الزعيم السابق لتنظيم "الذئاب الرمادية" سنان أتيس، رمياً بالرصاص في وضح النهار في العاصمة أنقرة أواخر عام 2022.