يستبد القلق بكثيرين من الأتراك وينتبابهم شعور بالخزي من تدهور مستويات معيشتهم وهم يدفعون ثمن الأخطاء الاقتصادية السابقة للرئيس رجب طيب أردوغان رغم ظهور علامات في الأفق على أن البلاد بدأت تخرج من أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة.
وأظهرت بيانات أن ست سنوات من التضخم شديد الوطأة المصحوب بتضييق شديد على الائتمان في العام الماضي، جعلت الفقر يطال المتقاعدين والعاملين بأجر مما يضع النسيج الاجتماعي في تركيا في اختبار أصعب من أي فترة أخرى في حكم أردوغان القائم منذ أكثر من عقدين.
ويقول الأتراك إنهم يعطون الآن المال إلى آبائهم وأجدادهم المتقاعدين على خلاف العادات التركية، على الرغم من أنهم هم أنفسهم يجدون صعوبة في دفع الفواتير الشهرية ويتخلون عن رفاهيات متواضعة مثل تناول الغذاء في المطاعم.
ويحث أردوغان الأتراك على الصبر، لكن عام 2024 هو الأكثر صعوبة فيما يبدو على هذا الجيل بالنسبة للأتراك الذين تعثرت حظوظهم الاقتصادية بسرعة منذ أول سلسلة من انهيارات العملة في عام 2018.
وقال فتاح دنيز (73 عاما): "ربما ما زلت أمشي، لكنني لا أعيش حقا". ويبلغ معاشه الشهري 13 ألف ليرة (393 دولارا) أي أقل ثلاث مرات من خط الفقر المحدد لشخص في مثل حالته، ولذا يساعده أولاده.
ويساهم دنيز في إدارة جمعية للمتقاعدين في حي بيرم باشا الذي تسكنه الطبقة العاملة في إسطنبول. وقال إنه يتجنب حفيده في الاجتماعات العائلية في العطلات لأنه ليس لديه أموال إضافية ليعطيها له. وقال: "هي محنة لكثيرين من الشرفاء المشبعين بتقاليد مجتمعنا".
وقال متقاعد آخر يدعى مصطفى يالتجين (69 عاما)، إنه قضى الليل في مستشفى أثناء رحلة إلى غازي عنتاب لأنه لا يستطيع تحمل كلفة فندق ولا يريد أن يثقل كاهل أقاربه هناك الذين سيشعرون بأنهم مضطرون إلى إطعامه.
واقترحت الحكومة زيادة هذا الشهر قد ترفع متوسط المعاش الشهري إلى نحو 14 ألف من 12 ألف ليرة.
وفي الوقت نفسه، يعيش أكثر من نصف العمال على الحد الأدنى للأجور البالغ 17002 ليرة أو قريبا منه، ومن غير المتوقع أن يرتفع على الرغم من دعوات المعارضة السياسية.
وقال اتحاد نقابات العمال الأتراك في تقرير صدر الشهر الماضي إن ذلك الرقم قريب من خط فقر ارتفع إلى 61820 ليرة (1870 دولارا) لأسرة قوامها أربعة أفراد في أنقرة، ووجد اتحاد النقابات العمالية الثورية التركية (دي.أي.إس.كيه) أن متوسط معاشات التقاعد في العام الماضي كان سدس نظيره في دول وسط أوروبا.
أردوغان جديد...
تقول مؤسسات تجري استطلاعات الرأي إن مثل هذه الصعوبات قد تؤدي إلى تآكل التأييد لأردوغان، وخاصة بعد أن ساعد المتقاعدون في تكبد حزب العدالة والتنمية المحافظ أسوأ خسارة في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس آذار الماضي.
ومع زيادة بطء الاقتصاد وتقليص أصحاب العمل للوظائف كما هو متوقع في الأشهر المقبلة، فقد يختبر هذا أيضا صبر أردوغان على برنامج التحول الذي دشنه العام الماضي حين اختار محمد شيمشك وزيرا للخزانة والمالية.
ومنذ حزيران (يونيو) 2023، رفعت القيادة الجديدة للبنك المركزي أسعار الفائدة من 8.5 إلى 50 بالمئة، في أعلى نسبة في أسواق الاقتصاديات الناشئة، من أجل تهدئة التضخم الذي تجاوز 75 بالمئة في أيار (مايو).
وهذا تحول صادم بالنسبة لأردوغان الذي وصف نفسه بأنه "عدو" لأسعار الفائدة. ففي السنوات الخمس السابقة، دافع الرئيس التركي عن سياسة المال السهل لتعزيز النمو الاقتصادي على الرغم من ارتفاع الأسعار وأقال فيها خمسة محافظين للبنك المركزي.
ونتيجة لهذا التوجه غير التقليدي إلى حد كبير، فقدت الليرة أكثر من 85 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار منذ عام 2018، وفر معظم المستثمرين الأجانب من البلاد ولامست احتياطيات العملات الأجنبية أدنى مستوياتها على الإطلاق قبل أن تنتعش أخيرا هذا العام.
ودأب أردوغان على تأييد البرنامج الجديد لكن البنك المركزي يقول إن أسعار الفائدة ستظل مرتفعة. ويقول محللون إن التضخم بدأ ما سيصبح انخفاضا مستمرا في يونيو حزيران، كما رفعت وكالات التصنيف درجة الأصول التركية وعاد كثيرون من المستثمرين الأجانب.
"محاصرون"...
لكن التداعيات قاسية في الشوارع.
فقد حصلت سيلان (28 عاما) على زيادات منتظمة في الأجر في عملها في القطاع الخاص، لكنها تقول إنها ما زالت غير قادرة على العيش في سعة في إسطنبول براتب 50 ألف ليرة فقط شهريا وليس بوسعها المغادرة.
وقالت: "أشعر أنني محاصرة... لا نستطيع أن نعيش الحياة التي نعتقد أننا نستحقها".
وتظهر البيانات أن سجالا محتدما ينشب غالبا بين المستأجرين وأصحاب العقارات حول الأسعار نظرا لارتفاع التضخم في الإسكان إلى المثلين تقريبا العام الماضي، بينما قفزت أسعار المنازل حوالي 50 بالمئة.
وفي إسطنبول، تقترب أسعار المطاعم من أسعار مطاعم لندن ودبي.
وقالت أينور (58 عاما) التي تعمل في شركة مالية: "لا مجال بالمرة للتفكير في تناول الطعام في الخارج وقضاء عطلة ترفيهية".
وأضافت: "المرء لا يريد أن يزوره الناس لأنه لا يستطيع تحمل كلفة استضافتهم. انتهت حياتي الاجتماعية".
وأظهر استطلاع للرأي أجرته شركة كوندا للأبحاث والاستشارات في الآونة الأخيرة أن نصف المشاركين في الاستطلاع يستطيعون تغطية نفقاتهم بصعوبة، وأن 30 بالمئة أسوأ حالا من ذلك. وقال نحو 83 بالمئة إن تركيا تمر بأزمة اقتصادية.
وجعل ارتفاع أسعار الفائدة الكثيرين غير قادرين على الحصول على ائتمان، لكن أسعار الفائدة المرتفعة على الودائع بالليرة أصبحت مغرية لمن لديهم أصول.
وقالت غولسيرين (64 عاما)، إنها باعت بعض العقارات في إزمير واستثمرت في بعض الحسابات ذات الفائدة المرتفعة "للحفاظ" على مستوي المعيشة. وأضافت "لكن حتى هذا غير مستدام لأن إجمالي مدخراتنا يتضاءل أيضا أمام التضخم".