جدد انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي معبداً الطريق أمام نائبته كامالا هاريس للمنافسة الشرسة مع الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب النقاشات في تركيا لجهة "الرئيس الأفضل"، فيما تبدو أنقرة قد حسمت قرارها لجهة الرهان على ترامب.
سارع الرئيس التركي إلى الاتصال بترامب مندداً بمحاولة اغتياله. وبحسب بيان الرئاسة التركية، أشاد أردوغان "بموقف ترامب الشجاع والمثير للإعجاب بعد الهجوم الشنيع"، قائلاً إن مواصلة برامجه من دون انقطاع يقوي الديموقراطية، "ويجب أن ينظر إلى ذلك كمؤشر على الثقة في فراسة الشعب الأميركي".
وفي جمل متتالية من المديح، قال أردوغان إن ترامب أظهر قيادة قوية من خلال رسائل الوحدة الهادئة التي أطلقها من أجل تقليل الاستقطاب والتوتر بعد محاولة اغتياله، مهنئاً إياه على ترشيحه رسمياً للرئاسة الأميركية من الحزب الجمهوري، ومتمنّياً أن "تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرر إجراؤها في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) مفيدة للشعب الأميركي والعلاقات التركية - الأميركية".
علاقة متوترة في عهدي ترامب وبايدن
سلكت العلاقات التركية - الأميركية مساراً مضطرباً في عهد ترامب. وتسببت تهديدات ترامب المهينة لأردوغان في عام 2019، إضافة إلى العقوبات التي تلت أزمة منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس-400"، بأزمة مالية كبيرة في تركيا.
أعادت هذه العقوبات العلاقات بين البلدين إلى عام 1975، حين ردّت واشنطن على الاحتلال التركي لشمال جزيرة قبرص بفرض عقوبات عسكرية واسعة على أنقرة، ظلّت شكلية بشكل عام نتيجة الأهمية التي توليها واشنطن لحليفتها الموثوقة في الشرق الأوسط.
لكن استبعاد تركيا من برنامج طائرات "أف-35" للسبب نفسه أحرج أنقرة لناحية كسر التوازن الجوي مع جارتها اللدودة اليونان، وأجبرتها على التحوّل نحو شراء الجيل الجديد من مقاتلات "أف-16" وتطوير المقاتلات القديمة من الطراز نفسه ضمن أسطولها الجوي، وهو ما تم في عهد بايدن، بعد موافقة أنقرة على عضوية فنلندا والسويد في شمال الأطلسي.
وفي عهد ترامب أيضاً، منع الكونغرس الأميركي بيع تركيا العديد من المنتجات والتقنيات والصناعات العسكرية، بشكل يتنافى مع روح التحالف المتجذّر بين الطرفين.
وكررت الإدارة الأميركية مواقفها الرافضة للخطوات التركية في الشرق الأوسط، فقد عبّر وزير الخارجية في حينه مايك بومبيو عن "القلق العميق إزاء تصرفات تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط"، متهماً أنقرة بالتسبب في تفاقم الوضع في القوقاز غداة الحرب الأذرية على أرمينيا.
إلا أن عهد بايدن كان الأكثر فتوراً في العلاقات بين البلدين. في بدايته، رفض بايدن لقاء أردوغان، ولم يجتمع الاثنان إلا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، كما ظلّت العلاقات بين البلدين متوترة، خصوصاً في ظل الانتقادات التركية المتكررة لسياسة الولايات المتحدة في سوريا، إضافة إلى استمرار واشنطن رفض تزويد أنقرة بمقاتلات "أف-35" وغيرها من الملفات الإشكالية.
سعى بايدن إلى تصحيح العلاقات مع حلفاء واشنطن التقليديين في الشرق الأوسط، لكن العلاقة مع أنقرة بقيت خارج هذه المساعي، على الرغم من إقدام تركيا على العديد من الخطوات في هذا المسار، بما فيها تعليق نشر المنظومة الصاروخية الروسية في البداية تجنّباً لوجود الفنيين الروس في مساحة جغرافية مشتركة مع قواعد شمال الأطلسي، وصولاً إلى الموافقة على عضوية السويد وفنلندا في الحلف وانصياع المصارف التركية للضغوط الغربية بما يخص التعامل المالي مع موسكو.
أردوغان يفضّل ترامب
على رغم الخسائر التي تلقّتها تركيا نتيجة لسياسات ترامب، تبدو أنقرة متحمّسة لوصوله إلى البيت الأبيض، حيث من المتوقع أن تتبع أميركا مساراً أكثر انطوائية في سياستها الخارجية الخاصة بالشرق الأوسط، ما يمكن أن يفسح المجال أمام أردوغان لملء الفراغ المفترض حدوثه في الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا والعراق.
تؤكد غونول تول، مديرة برنامج تركيا في "معهد الشرق الأوسط" في واشنطن، لـ"النهار العربي" أن الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان "تفضل بشكل مطلق ترامب عن أي مرشّح جمهوري آخر".
تضيف تول: "السبب في ذلك هو أن طريقة الرئيسين في ممارسة السياسة تتشابه بشكل كبير، وهي الطريقة التي يتبعها أصلاً الزعماء الأوتوقراطيون مثل أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون والرئيس الصيني شي جينبينغ وترامب، أي التواصل من خلال الأشخاص لا المؤسسات والتركيز على العلاقة الشخصية بدلاً من البروتوكولات".
أما السبب الآخر، وفق تول، فهو رفض ترامب الوجود العسكري الأميركي الواسع في الخارج، حيث من المنتظر أن يقوم بسحب القوّات العسكرية من مختلف المناطق حول العالم بما فيها سوريا والعراق، "وهذا يفتح المجال أمام أنقرة لكسب نفوذ ومساحات أكبر لأردوغان في المنطقة".
وتشير تول إلى أن الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تسبب بها ترامب لتركيا، خصوصاً عندما هدد بتدمير الاقتصاد التركي إذا لم يمتثل أردوغان للمطالب الأميركية، إضافة إلى مضاعفته الرسوم على استيراد المعادن والصلب التركي. لكن ذلك لم يغير من رغبة أردوغان في مخاطبة ترامب بدلاً من بايدن في البيت الأبيض. وأدى انتهاج تركيا سياسات متضاربة مع واشنطن في بعض الأحيان في الشرق الأوسط وشرق المتوسط والقوقاز إلى حدوث خلل في العلاقة التركية - الأميركية، ظهر بشكل واضح في عهد بايدن.
وتنظر أنقرة إلى كامالا هاريس، المرشّحة الرئاسية المحتملة للحزب الديموقراطي، على أنها امتداد لبايدن. فكما اعتمد بايدن على كادر سلفه الرئيس باراك أوباما في الوظائف والمفاصل البيروقراطية الحساسة، فمتوقّع أن تحذو هاريس حذو بايدن في الاعتماد على فريقه المقرب.
تسبب التوتر السابق في شعور متبادل بعدم الثقة. فعلى الجانب التركي، تراجعت الرؤى الإيجابية اتجاه الولايات المتحدة في الخطاب السياسي والمزاج الشعبي والرأي العام، بالتوازي مع انهيار الأساس التقليدي للعلاقة الثنائية القائمة على التحالف الأمني والعسكري، ولو اختلفت الأجندة السياسية.
هاريس... أو ترامب؟
هذا السؤال من أكثر الأسئلة نقاشاً في الأوساط الإعلامية والأكاديمية التركية، وسط انقسام بين الموالين للسلطة والمعارضة.
في معرض الدفاع عن موقفهم المؤيد لهاريس، يركّز الصحافيون المعارضون لأردوغان في مفاضلتهم بين المرشحين الديموقراطي والجمهوري لرئاسة الويلات المتحدة، على الأضرار التي ألحقها ترامب بتركيا واقتصادها، محذّرين من إقدامه، كحال معظم الرؤساء الشعبويين، على ممارسات خطرة قد تؤدي إلى تفجّر المنطقة.
لكن الصحافي التركي المخضرم فاتح التايلي يشير إلى أن "عهود الديموقراطيين، من أوباما إلى بايدن، كانت الأسوأ في العلاقات التركية - الأميركية"، محمّلاً هاريس مسؤولية تدهور العلاقة الثنائية، ومحذراً من حماستها للحرب الروسية - الأوكرانية، "وهي المؤيدة للمجمع العسكري الصناعي في الولايات المتحدة الأميركية"، ما يزيد الضغوط الأميركية على أنقرة في علاقتها مع موسكو.
وبحسب التايلي، هذا لا يعني أن فوز ترامب سيكون أفضل لتركيا، "فانتخابه سيكون أمراً سيئاً جداً، وسيكون انتخاب هاريس أمراً أسوأ جداً، ولست متأكداً مما إذا كانت المشكلة تكمن في ترامب أم في هاريس".
دأبت أنقرة في السنوات الأخيرة على تحسين علاقاتها في الشرق وأوروبا وأميركا من خلال تقديم التنازلات والتراجع عن المواقف المثيرة للجدل، ما رفع كلفة الحفاظ على العلاقات الثنائية. لذا، التعامل مع رجل أعمال من عيار ترامب، يمتهن لغة المصالح والمبالغ النقدية، قد يكون أسهل بالنسبة إلى أردوغان من وصول امرأة شديدة التركيز على مسائل الديموقراطية وحقوق الإنسان والأقلّيات إلى المكتب البيضوي.