تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل عقب تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإسرائيل، والتي اعتبرها محللون أتراك بأنها موجّهة إلى الداخل، فيما ذهب بعضهم إلى الحديث عن رغبة تركية في استعراض "قوّتها الخشنة" في المنطقة، استعداداً للتغيير المحتمل في البيت الأبيض.
ففي كلامه خلال اجتماع نظّمه فرع "ريزة"، مسقط رأس أردوغان، في حزب "العدالة والتنمية" الأحد الماضي، هدّد الرئيس التركي تل أبيب بالتدخّل عسكرياً "تماماً كما تدخّلنا في كاراباخ (حرب أذربيجان-أرمينيا) وليبيا. فليس هناك ما لا يمكننا فعله".
موجّه إلى الداخل
وصل تراشق التصريحات بين أنقرة وتل أبيب إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر، وتبادل المسؤولون الأتراك والإسرائيليون التصريحات والاتهامات المتبادلة من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يذكّر أحدهما الآخر بنهاية مثل نهايتي الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والزعيم النازي أدولف هتلر.
يعتقد أوغوزهان جاغليان، الباحث التركي في الشؤون الإسرائيلية، أن "تهديدات أردوغان الأخيرة غير واقعية وغير قابلة للتحقيق أصلاً. ويضيف لـ"النهار العربي": "إنها موجّهة في جوهرها إلى الرأي العام التركي وليس لإسرائيل، وسببها المنافسة المحتدمة مع حزب الرفاه الجديد على أصوات الناخب الديني المحافظ".
وتشكّل الحرب على غزة أرضية خصبة لحزب "الرفاه مجدداً" الإسلامي المحافظ، الذي يخاطب ذات الكتلة الانتخابية الداعمة لحزب "العدالة والتنمية" والرئيس أردوغان، لانتقاد السلطة وانتزاع الأصوات منها، ما مكّنه من الظفر بأحد أهم البلديات الكبرى في البلاد، أورفا، وأخرى فرعية في ولايات تُعتبر معاقل حزب "العدالة والتنمية" منذ عقود.
في إثر الخسارة التي مُنيت بها السلطة في الانتخابات البلدية لصالح "الرفاه مجدداً"، اضطرت الحكومة التركية في أيار (مايو) المنصرم إلى قطع علاقاتها التجارية مع إسرائيل، بعد نحو 7 أشهر على بدء حرب غزة.
لكن حزب "الرفاه مجدداً"، الممتدة جذوره إلى حزب "الرفاه" برئاسة السياسي التركي الراحل نجم الدين أربكان، والذي انطلق منها الرئيس التركي ومؤسسو حزب "العدالة والتنمية" إلى الحياة السياسية، واصل استهداف سياسات الحكومة التركية حيال غزة، منتقداً الاستمرار في تزويد تل أبيب بالنفط الأذربيجاني عبر تركيا، وسط مطالبات بدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى مخاطبة البرلمان التركي، ردّاً على استضافة الكونغرس الأميركي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وهذه انتقادات ردّ عليها أردوغان في كلمته الأخيرة بلغة قاسية، متهكّماً بالبرلماني دوعان بيكي وموجّهاً إليه انتقادات شخصيةً وأخلاقية، ليكشف أن حكومته دعت عباس إلى زيارة تركيا، لكنه لم يلبِّ الدعوة، ومقللّاً في الوقت ذاته من مكانة حزب "الرفاه مجدداً"، في مقابل تصعيد لهجته ضدّ إسرائيل.
"الرفاه مجدداً" خصم أردوغان
يذكّر أردوغان الرأي العام التركي المحافظ على الدوام بحقيقة دخول حزب "الرفاه مجدداً" إلى البرلمان بفضل "تحالف الشعب" الحاكم، ليرّد عليه رئيس الحزب الحالي، فاتح أربكان، قائلاً: "ربّما أدخلنا نوابنا إلى البرلمان بفضلك، لكنك انتُخِبتَ رئيساً بأصواتنا".
يقول ادغار تشار، الأستاذ التركي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، إن أردوغان يستخدم استراتيجية تقسيم المعارضة للبقاء في السلطة محتفظاً بقوّته، "وقد نجح إلى حدّ كبير في الأعوام الماضية في تفتيت ’تحالف الأمة‘ المعارض، والذي أصبح مجزأ إلى أحزاب متباينة في المواقف في ما بينها".
يضيف تشار لـ"النهار العربي": "لكن هذه الاستراتيجية لن تنجح مع حزب ’الرفاه مجدداً‘، الذي يأتي من العمق الأيديولوجي ذاته والقاعدة الشعبية نفسها الموالية لحزب ’العدالة والتنمية‘، لذلك يجد نفسه مضطراً إلى انتزاع الأوراق التي يضغط من خلالها ’الرفاه مجدداً‘ على حكومته ويكسب المزيد من الأصوات والشعبية".
يضغط حزب "الرفاه مجدداً" على أردوغان وحكومته في ملفي غزة والاقتصاد. ومع فشل محاولات الحكومة التركية ووزير الخزانة والمالية محمد شيمشيك في إيجاد حلول إسعافية للاقتصاد، لم يبقَ أمام الرئيس التركي سوى المزايدة على مواقف منافسه حيال غزة والحرب الإسرائيلية.
يعتقد جاغليان، خريج الجامعة الإبراهيمية في القدس، أن تركيا مقبلة على استفتاء لتعديل الدستور، ليتسنى لأردوغان ترشيح نفسه لانتخابات عام 2028، "وبما أن السلطة لا تملك أغلبية 400 صوت في البرلمان لتعديل الدستور، فإنها ستذهب في اتجاه الاستفتاء الشعبي لتمرير الدستور الجديد، ولديها 362 مقعداً اللازمة لذلك"، مضيفاً: "في هذا الاستفتاء، يحتاج أردوغان إلى تمكين قاعدته الشعبية، ويحاول وقف نزيف أصوات المحافظين الدينيين وتسرّبها إلى ’الرفاه مجدداً‘، فهو من جهة سيكون بحاجة إلى كل صوت، ومن جهة أخرى تصاعد شعبية ’الرفاه مجدداً‘ سيجبره على تقديم الكثير من العروض والتنازلات لضمان عدم اصطفاف الأخير في جبهة المعارضة".
توتر العلاقات التركية-الإسرائيلية
بعد قرار تركيا وقف التجارة مع إسرائيل، وإعلانها عن نيّتها التدخّل في قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية إلى جانب جنوب إفريقيا، جاء التهديد بالتدخّل العسكري مؤشراً إلى تصاعد التوتّر بين الجانبين خلال الأسابيع المقبلة.
يقول الخبير الأمني التركي سعاد ديلغين لـ "النهار العربي" إن العلاقات التركية - الإسرائيلية بدأت تشبه إلى حدّ كبير العلاقات التركية - اليونانية، "ففي البلدين، تحاول القوى السياسية تمكين قاعدتها الشعبية والرأي العام الداخلي بتقاذف اللوم في خطابات شعبوية تتجاوز الحدود الديبلوماسية".
ويضيف ديلغين، الضابط السابق في الجيش التركي ومندوب تركيا في حلف شمال الأطلسي: "وبينما تطالب إسرائيل، وهي ليست عضواً في الناتو، بطرد تركيا من الحلف، كتبت الصحافة التركية أن القوات المسلحة قد تدخل إسرائيل، وهما أمران غير واقعيين".
في حلبة الأطلسي
انضمّت إسرائيل إلى الحوار المتوسطي لحلف شمال الأطلسي في عام 1994، وأصبح لها ممثلون رسميون في مقر "الناتو" بموافقة تركيا منذ عام 2017. وتشارك في الاجتماعات الدورية التي تهدف إلى تعزيز التعاون بين دول الحلف في مختلف القضايا.
وعلى سبيل المثال، أطلع العقيد أميت لانير، الممثل العسكري الإسرائيلي لدى حلف شمال الأطلسي، اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي في 8 أيار (مايو) 2023 على القدرات العسكرية الإسرائيلية الجديدة، والتقنيات العسكرية التي تمتلكها، وتتضمن الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الآلية في ساحة المعركة. كما قام نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ميرسيا جيوانا بزيارة رسمية إلى إسرائيل لإجراء اتصالات رفيعة المستوى في 7 ايلول (سبتمبر) 2023. وخلال الزيارة، التقى ميرسيا جيوانا بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، مشدّداً على الشراكة الوثيقة وطويلة الأمد بين "الناتو" وإسرائيل.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من إعلان وزير الخارجية هاكان فيدان في الأول من أيار (مايو) 2024 عن قرار تركيا التدخّل في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فإنها لم تصبح طرفاً حتى الآن.
تقول سيلين ناسي، المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، لـ "النهار العربي": "للمرّة الأولى، تصل العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى حدّ التهديد بالتدخّل العسكري، فالبلدان ظلّا يتقاسمان النظرة المشتركة إلى التهديدات الأمنية الإقليمية عقوداً طويلة، وعلى الرغم من بعض التوتر في العلاقة في فترة السفينة ’مرمرة الزرقاء‘، فلم يهدّد أحدهما الآخر أبداً".
تضيف سيلين: "جزء من هذا التوتر مردود إلى غضب أنقرة من استبعادها من مفاوضات وقف إطلاق النار والمسار السياسي لحل القضية الفلسطينية". ففي حين نجحت الصين في جمع الفصائل الفلسطينية، عجزت تركيا عن استضافة عباس، "لذا، فإن أنقرة تذكّر البلدان الإقليمية والقوى الكبرى بوجودها القوي في المنطقة"، كما تقول.
غير جادتين
من جهته، يرى جاغليان أن تركيا وإسرائيل غير جادتين في تهديداتهما. يقول: "استند أردوغان في تهديداته على مثالي أذربيجان وليبيا، وهما يختلفان كلياً عن غزة. أذربيجان كانت بوابة تركيا نحو العالم التركي، وليبيا كما سوريا كانت حرباً من أجل دعم مصالح اقتصادية وأيديولوجية، فيما لا توجد مصلحة تركية في الانخراط في حرب غزة".
ويضيف: "طلب إسرائيل من حلف ’الناتو‘ استبعاد تركيا استعراضي أيضاً. فمثل هذا القرار يجب أن يحظى بقبول كافة الأعضاء، وهناك العديد من الدول الأطلسية التي تربطها بتركيا علاقات وتحالفات وثيقة، ومنها إسبانيا على سبيل المثال، مقابل علاقات سيئة مع تل أبيب، فكيف ستقنع تلك الدول للتصويت ضدّ تركيا".
وينهي جاغليان حديثه بالقول: "الكل يستبعد أي صدام بين الجانبين، لكن التوتّرات الخطابية ستستمر بعض الوقت، خصوصاً أن الحكومتين التركية والإسرائيلية بحاجة إلى التفاف ومساندة مؤيديهما في هذه الفترة".