على الرغم من التصريحات الرسمية المتفائلة، تشير الأرقام والإحصاءات الأخيرة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التركية، وسط تحذيرات جدّية من الانزلاق إلى مرحلة الكساد بعد فترة طويلة من الركود التضخّمي.
لم تصب الآمال والتخمينات الحكومية التركية بموسم سياحي قادر على انتشال الاقتصاد المتعثر منذ سنوات، فيما حطّمت البطالة والتضخم أرقاماً قياسية تاريخية، رفعت احتمال تدهور الوضع الاقتصادي مع الاقتراب من نهاية العام.
التضخم يواصل ارتفاعه
أعلن "المعهد الإحصائي التركي" (Turkstat) في الأسبوع الماضي ارتفاع معدّل التضخّم في تموز (يوليو) الماضي بنسبة 3.23% على أساس شهري، مقابل انخفاضه على أساس سنوي إلى 61.78%.
إلّا أن "مجموعة أبحاث التضخم المستقلة" (ENAG)، المؤلفة من أساتذة اقتصاد في عدد من الكليات التركية، نفت هذه الأرقام، مؤكّدة أن مؤشر أسعار المستهلك زاد في تموز (يوليو) بنسبة 5.91% على أساس شهري، فيما ارتفع التضخّم على أساس سنوي بنسبة 100.88%.
ويؤكّد الصحفي الاقتصادي التركي ديفريم أكييل، أن "السبب الرئيسي وراء زيادة التضخّم، خلافاً للخطط الحكومية لتخفيضه، هو السياسات الحكومية ذاتها. فالحكومة التي تعلن محاربتها التضخّم تفرض زيادات دورية في نسب الضرائب وأسعار المواد الأساسية والطاقة".
ويضيف أكييل، الخبير في السياسات الاقتصادية الحكومية، لـ"النهار العربي": "زادت الحكومة أسعار الخدمات التي تقدّمها بشكل كبير وفي كل القطاعات، بهدف تغطية العجز الكبير في ميزانيّتها، ولأنها في الأساس لا تقوم بجباية الضرائب من الجهات التي ينبغي أن تحصّل منها، وبالتالي تلجأ إلى فرض الضرائب غير المباشرة على المواد الاستهلاكية".
ومنذ إعلان الحكومة التركية عن برنامج التقشّف الاقتصادي، رفعت تباعاً أسعار الكهرباء والغاز والبنزين والمازوت، إضافة إلى رسوم المغادرة والمعاملات وتسجيل السيارات والضرائب على العقارات وحتى المشروبات الكحولية والتبغ بنسب تجاوز بعضها 200%.
نظرية خاطئة!
في المقابل، وعلى الرغم من المطالب الشعبية الواسعة، أصرّ وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشيك، صاحب برنامج "شدّ الأحزمة"، على عدم رفع الحدّ الأدنى للأجور والرواتب والمعاشات التقاعدية، "لأن هذه الخطوة ستؤدي إلى انفجار التضخّم" بحسب تعبيره، ما شكّل أحد أسباب خسارة الحزب الحاكم للانتخابات البلدية الأخيرة في آذار (مارس) الماضي.
يرفض أكييل نظرية وزير المالية، ويصفها بالخاطئة، قائلاً إن العاملين بالحدّ الأدنى للأجور والرواتب والمتقاعدين "يعيشون اليوم تحت خط الفقر، وأكثر من 10% منهم يعيشون حالياً تحت خط الجوع".
ويضيف: "لا يمكن من يعيشون تحت خط الجوع أن يساهموا في ارتفاع التضخم". ففي البلدان المتقدّمة، ينتمي هؤلاء إلى الطبقة الوسطى، وإذا توقفت هذه الطبقة عن الإنفاق، ينخفض الانكماش، "أما من يعيش تحت خط الجوع فيخصص الزيادة على أجره لشراء الخبز لبيته، محاولاً إشباع جوعه، ومضحك القول إنه يساهم في زيادة التضخم"، على حدّ تعبير أكييل.
بطالة قياسية
انعكست نتائج السياسات الاقتصادية لبرنامج التقشف الحكومي بقيادة شيمشيك على البطالة بشكل كبير، إذ تشير الأرقام الرسمية إلى وصول البطالة بتعريفها الواسع (الموظفون الموسميون القوى العاملة العاطلة من العمل والباحثون عن عمل) إلى أعلى مستوى لها من الجائحة.
ووفقاً لنتائج أبحاث العمل في معهد الإحصاء التركي، زاد عدد الباحثين عن عمل ممن تتجاوز أعمارهم 15 عاماً بمقدار 234 ألف شخص في حزيران (يونيو) الماضي، مقارنة بالشهر السابق ليصبح هذا الرقم 3,305 ملايين شخص.
كما ارتفع معدل البطالة بمقدار 0.7 نقطة ليصبح 9.2%، موزعاً بنسبة 7.6% للرجال، و 12.4% للنساء.
أما الأخطر، وفقاً للخبراء الأتراك، فهو ارتفاع البطالة بين الفئات العمرية الشابة، والتي سجّلت في حزيران (يونيو) الماضي زيادة بنسبة 1.7%، مقارنة بالشهر السابق، لتصل لدى الفئة العمرية التي تتراوح بين 15 و24 عاماً إلى 17.6%، موزعة بنسبة 14.8% للرجال و 23.2% للنساء.
ويعتقد الصحفي التركي مراد يتكين، أن استمرار زيادة أرقام البطالة لدى هذه الفئة سيؤدي إلى إحجام نسبة كبيرة من الشبان عن الدراسة بحثاً عن سبل المعيشة بالهجرة، ما يعرّض مستقبل البلاد للخطر. فيما يؤكّد الصحفي الاقتصادي التركي مراد مراد أوغلو أن العدد الحقيقي للباحثين عن عمل بمعناه الدقيق "هو 11,810 مليون شخص، أي 1 من كل 3 قوى عاملة في تركيا".
شتاء اقتصادي بارد
دفعت الأزمة الاقتصادية الخانقة، والمخاوف من الكساد، بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان إلى الانخراط شخصياً في المساعي لإيجاد الحلول للاقتصاد المتعثّر، بعد خيبة أمل بسبب عجز وزير ماليّته عن جذب رؤوس الأموال الغربية، وتأخّر الوعود الاستثمارية الخليجية.
وأعلن جودت يلماز، نائب الرئيس التركي، عزم الحكومة على عقد اجتماع "المجلس الاستشاري للاستثمار" في نهاية أيلول (سبتمبر) المقبل، بعد انقطاع دام أكثر من 8 سنوات، أي منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز (يوليو) 2016.
كما كشف يلماز عن إرسال أردوغان رسالةً إلى الشركات العالمية العملاقة في الولايات المتحدة وأوروبا والصين والخليج، داعياً إيّاهم لحضور الاجتماع، للاطلاع على فرص الاستثمار المربحة في تركيا، قائلاً إن من بين المدعوين شخصيات مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس ورئيس البنك الدولي، وغيرهم.
وحول النتائج المأمولة من الاجتماع يقول يتكين: "لمعظم الشركات العالمية العملاقة مكاتب تمثيلية في تركيا، وهي على اطلاع بتفاصيل الاقتصاد التركي، كما أن وزير الخزانة والمالية التقى بهم سابقاً، وحثّهم على الاستثمار في تركيا".
ويضيف: "تقف العديد من العوائق أمام مجيء هؤلاء إلى تركيا، أهمها مشكلة نزاهة القضاء واستقلاليّته، في ظل فقدان الثقة بالمنظومة العدلية، وحتى الآن المستثمرون هم فقط أصحاب الأموال الساخنة، الذين يحاولون الاستفادة من النسب العالية للفائدة وفي فترات زمنية قصيرة".
انفجار اجتماعي
في تركيا، ينخفض معدل البطالة في أشهر الصيف، نظراً إلى فرص العمل الإضافية في قطاعي السياحة بالدرجة الأولى ومن ثم الزراعة، لكن رياح الموسم السياحي لم تجر بما تشتهي سفن التوقّعات الاقتصادية.
وإلى جانب التراجع في القطاع السياحي، يشير أكييل إلى أن "آلية الإنتاج متوقفة بالفعل، والعملة الأجنبية الواردة تنخفض بشكل تدريجي، وهناك برنامج حكومي خاطئ يستند على عدم منح أجور منطقية للموظفين"، وهو يعتقد أن هذا الوضع لن يستمر إلى ما بعد الخريف، "لذلك ينتظرنا خريف صعب للغاية، ولا أتوقّع أن يشهد هذا البرنامج الشتاء المقبل".
من جهته، يشرح مراد أوغلو أن "الشركات تقوم بتعيين الموظفين إذا كان لديها إيمان باستقرار البلاد وثقة بآفاق النمو، وهذا يدفعها إلى توسيع نشاطها الصناعي أو التجاري، وبالتالي يزيد من احتياجاتها لليد العاملة، وهو ما لا يمكن رؤيته في الوضع السياسي والاقتصادي الحالي لتركيا".
ويستبعد مراد أوغلو ظهور بوادر لنمو اقتصادي قبل نهاية عام 2025، "وهذا يعني أن مئات آلاف العمال الآخرين سينضمون إلى جيش البطالة، ما يمكن أن يؤدي إلى انفجار اجتماعي".