بعد تراجع ثقله في الحياة السياسية التركية وحضوره الشعبي بين الناخبين الأتراك، يبدو أن حزب "العدالة والتنمية" يتّجه نحو اعتماد تكتيك سياسي جديد لتمكين قوّته وقاعدته الشعبية، باعتماده في هذه المرّة على قدرته المالية وسلطته لجذب السياسيين والإداريين ورجال الأعمال، وحتى الإعلاميين الفاعلين، من صفوف الخصوم.
فقد استهلّ الحزب الحاكم احتفالات ذكرى تأسيسه الـ23 بافتتاح "موسم الانتقالات" السياسية والإدارية، بإعلان انضمام 13 رئيس بلدية وبرلمانيين اثنين إلى صفوفه، بمباركة من الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان.
استهداف "الرفاه مجدداً"
وسط تصفيق حار من قيادات الحزب، من الوزراء والمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الداعمين، منح الرئيس التركي المنضمين الجدد شارة الحزب، فعلّقها على صدر كل واحد منهم، بعد خطاب حماسي طالب فيه "المتعبين وفاقدي الأمل" بالابتعاد عن مناصبهم الحزبية والإدارية، وإتاحة الفرصة أمام "الدماء الجديدة".
شكّل الأعضاء السابقون في حزب "الرفاه مجدداً"، المنافس لحزب "العدالة والتنمية" على أصوات الإسلاميين والمحافظين في البلاد، أغلبية قائمة الانتقالات الحزبية، فيما مثّل انتقال رئيس بلدية من حزب "ديم" الموالي للأكراد، أشرس خصوم الحكومة في المعارضة، مفاجأة جذبت ردات فعل غاضبة ومنتقدة لسياسات الحزب في اختيار ممثليه في البرلمان والبلديات.
يقول الصحفي التركي علي كمال إرديم لـ"النهار العربي"، إن حزب "العدالة والتنمية" سيحاول في هذه المرحلة كسب رؤساء البلديات والنواب، "لإظهار نفسه أنّه لا يزال مركز جذب سياسي، بعدما فَقَد اهتمام الناس بشكل كبير، سواء لناحية التصويت أو الانتساب، مقارنة بالأعوام السابقة".
فقد خسر حزب "الرفاه مجدداً"، الحصان الأسود في انتخابات آذار (مارس) الماضي، 6 بلديات دفعة واحدة، بانتقال رؤسائها إلى ضفة "العدالة والتنمية"، ما دفع برئيس الحزب فاتح أربكان، نجل مؤسس الإسلام السياسي في تركيا ومعلّم أردوغان وزملائه في "العدالة والتنمية" نجم الدين أربكان، إلى الإدلاء ببيان استنكار، قائلاً: "إن رؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية المنتخبين من حزب ’الرفاه مجدداً‘ بإرادة أمتنا الحرّة في الانتخابات المحلية التي أُجريت في 31 آذار (مارس 2024) يواجهون أساليب الابتزاز السياسي التي تتبعها حكومة حزب ’العدالة والتنمية‘".
وبحسب إرديم، الخبير في السياسات الداخلية التركية، فإن حزب "الرفاه مجدداً" كان أحد أكثر الأحزاب جذباً لأصوات كتلة "العدالة والتنمية" الانتخابية في الاستحقاق الأخير، "وهو ما يفسّر تركيز السلطة عليه لناحية عمليات الانتقال الماضية والمقبلة".
أهداف أردوغان
نجح حزب "العدالة والتنمية" في تحويل حفل ذكرى تأسيسه إلى استعراض للقوة من خلال الانتقالات التي لن تقتصر على الأسماء الحالية، بحسب المصادر الحزبية في أنقرة، إذ كشف نواب بارزون في الحزب لعدد من وسائل الإعلام الموالية عن استعدادات لانتقال أسماء لامعة في وسائل الإعلام وعالم المال والأعمال والأوساط الأكاديمية المعارضة.
وفي حين برز حزب "الرفاه مجدداً" كأكبر مصدّر لرؤساء البلديات إلى "العدالة والتنمية"، فإن النائبين اللذين انضما إلى الحزب الحاكم مؤخّراً، كسبا مقعديهما في البرلمان التركي عن حزب "الجيد" وبأصوات التحالف السداسي الذي قاده حزب "الشعب الجمهوري"، المعارضة الأم في البلاد.
يُعرف النائبان المنضمان إلى "العدالة والتنمية" بقربهما من ميرال أكشينار، الزعيمة السابقة لحزب "الجيد" التي عقدت اجتماعاً خاصاً مع الرئيس التركي في 5 حزيران (يونيو) الماضي من دون الإدلاء بأي تصريح عن مضمون اللقاء ومخرجاته.
وتهدّد أخبار انضمام المزيد من نواب حزب "الجيد" إلى "العدالة والتنمية" مستقبلاً، والادّعاءات التي برزت قبل الانتخابات العامة حول عمليات بيع القوائم النيابية داخل الحزب لرجال الأعمال مقابل مبالغ مالية، والاجتماع الغامض لاحقاً، الحزب الذي تأسس في عام 2017 بالاندثار، خصوصاً في ظلّ الانشقاقات المتتالية داخل صفوفه.
لا شكّ في أن اختفاء حزب "الجيد" من المشهد السياسي التركي يمثّل هديّة قيّمة يقدّمها الرئيس التركي لشريكه في "تحالف الشعب" الحاكم، زعيم حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرّف دولت باهتشيلي، خصوصاً أن حزب "الجيد" اليميني القومي انشقّ عنه رفضاً لاستمرار رئاسة باهتشيلي.
لكن، ثمّة هدفاً أكبر من وراء استهداف نواب حزب "الجيد" بالدرجة الأولى، إضافة إلى الأحزاب الصغيرة الأخرى في "التحالف السداسي" المنتهي بحكم الأمر الواقع كـ "المستقبل" و"ديفا" وغيرهما.
تفريق المعارضة
يقول إرديم إن أردوغان، من خلال هذه التنقلات، "لا يتوقع فعلياً زيادة كبيرة في أصواته الانتخابية، لكنّه يحاول تأجيج الخلافات داخل المعارضة"، مضيفاً: "حين يتعلق الأمر بانتقال نواب من أحزاب كـ"الجيد" و"المستقبل" إلى ’العدالة والتنمية‘، يندلع جدل حقيقي داخل ’حزب الشعب الجمهوري‘، كون هؤلاء النواب قد نجحوا في دخول البرلمان عبر قوائم ’حزب الشعب الجمهوري‘، وبموافقة رئيسه السابق كمال كيليتشدار أوغلو، وسط معارضة كتلة كبيرة داخل الحزب لهذا التكتيك".
وبوصول أوزغور أوزيل إلى رئاسة حزب "الشعب الجمهوري"، المعارضة الأم في البلاد، تلاشت الآمال بإعادة إحياء "الطاولة السداسية" التي جمعت إلى جانب الحزب الأكبر والأقدم في البلاد، أحزاباً يمينية دينية وقومية، على أمل إطاحة أردوغان في انتخابات عام 2023، وأوصلت 39 نائباً من هذه الأحزاب إلى البرلمان.
لكن أوزيل، أصرّ على إبقاء أبواب الاتّفاق الانتخابي مفتوحة مع كل الأحزاب من دون تقديم تنازلات، لا على مستوى القوائم البرلمانية ولا على مستوى البلديات.
ويرى إرديم أن أردوغان، في الواقع، "يستعد بهذه الانتقالات للانتخابات المقبلة، محاولاً توسيع الهوّة بين أحزاب المعارضة. فانتقال نواب من الأحزاب الصغيرة في المعارضة إلى ’العدالة والتنمية‘ سيزيد من حالة الاستياء داخل ’حزب الشعب الجمهوري‘ ويصعّب إمكانية أي تعاون مستقبلي بين أحزاب المعارضة على أرضية الخشية من خطوات خيانة وصبّ الأصوات المعارضة لصالح السلطة".
قديمة... في تزايد
ليست ظاهرة انتقال النواب ورؤساء البلديات من حزبهم إلى أحزاب السلطة بعد الانتخابات بجديدة في الحياة السياسية التركية، لكنّها زادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة من عهد "العدالة والتنمية".
في عهد النظام البرلماني، اعتادت الأحزاب الساعية إلى تشكيل حكومة ائتلافية إغراء نواب من أحزاب خارج التحالف للانضمام إليها، سعياً إلى تأمين الأغلبية اللازمة للحصول على ثقة البرلمان، في مقابل وعود بمنح النواب المنتقلين، حقائب وزارية أو امتيازات تجارية لشركاتهم أو أقاربهم.
أما اليوم، في عهد النظام الرئاسي، ومع احتفاظ الرئيس التركي بالأغلبية البرلمانية اللازمة لتمرير القرارات الرئاسية، فإن استقطاب السياسيين من الخصوم عبر الترغيب ورؤساء البلديات من خلال الضغوط الحكومية على البلديات التي ظفروا بها، يخدم في إضعاف المعارضة، وخلق المشاكل في ما بينها من جهة، وبين كل حزب وقاعدته الشعبية التي قد تُصاب بالإحباط نتيجة قدرة السلطة على الحصول مرّة أخرى على البلديات التي خسرتها انتخابياً.
يقول إرديم: "إن إقناع الخصوم على الانتقال إلى صفوف ’العدالة والتنمية‘ ليست بالمهمّة السهلة في هذه الأيام، لكن الحزب لن يكف عن ذلك. فأردوغان يضغط دائماً لخلق المزيد من الفرص، ويحاول إيجاد الثغرات في صفوف الخصوم، ولا يستسلم في هذه الأمور، وسيزيد من مساعيه لتشتيت المعارضة من الآن فصاعداً".