قدّمت تركيا مؤخّراً طلباً رسمياً للانضمام إلى مجموعة "بريكس" (BRICS)، بالتزامن مع إشارات إلى توتّر في العلاقات الروسية – التركية، وتقارير إعلامية تحدّثت عن مفاوضات بين واشنطن وأنقرة على أرضية استغناء الأخيرة عن صواريخ الدفاع الجوي الروسية أس-400، ما زاد الشكوك حول جدّية الطلب التركي وماهية دوافعه.
وفي حين يجادل البعض بكون الطلب مؤشّراً إلى تحوّل السياسة الخارجية التركية الساعية نحو التعددية القطبية، فإن طلب الانضمام أحدث جدلاً داخلياً حول تأثير العضوية المحتملة على علاقات أنقرة بحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسط تكهّنات بأن الخطوة تكتيكاً تهدف إلى تشجيع الدول الغربية على تقديم المزيد من الدعم المالي للاقتصاد التركي المأزوم.
بريكس ورقة ضغط
لم تؤكّد الخارجية التركية رسمياً تقدّم أنقرة بطلب للانضمام إلى المجموعة، التي تأسست بعضوية البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، قبل انضمام مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات والسعودية إليها مطلع العالم الجاري.
لكن تصريحات مسؤولين أتراك وممثلين عن "بريكس" تشير إلى وجود مثل هذا الطلب "الذي بات قيد النظر". ومتوقع أن يحضر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القمة المقبلة في قازان، في مؤشر آخر إلى اهتمام أنقرة بهذا التحالف.
تأتي محاولة تركيا للانضمام إلى "بريكس" بعد تاريخ من المحاولات غير الناجحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتزامناً مع اجتماع غير رسمي لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في أول دعوة لتركيا من هذا النوع منذ عام 2019.
وتهدف المجموعة إلى تعزيز موقع أعضائها من الاقتصادات الناشئة في السوق العالمية، في تحدٍ غير معلن رسمياً للهيمنة الغربية على النظام الاقتصادي والمالي العالمي، إذ تمثّل المجموعة نحو 28% من الاقتصاد العالمي و44% من إنتاج النفط الخام في العالم، بكثافة سكّانية تقارب 45% من مجموع سكّان العالم.
ويسعى أردوغان من خلال طلب الانضمام إلى الحصول على تنازلات من الغرب، خصوصاً في موضوع العقوبات على روسيا، إلى جانب تأمين دعم دول "بريكس" وسط التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها بلاده، في ظل بطء مسار إصلاح العلاقات التجارية مع الغرب وجذب الاستثمارات الأجنبية، محاولاً تحقيق توازن بين علاقاته بالحلفاء الغربيين وبالكتلة الروسية - الصينية.
توتر مع روسيا
يأتي الطلب التركي في وقت تشهد فيه العلاقات التركية - الروسية توتّراً ملحوظاً بسبب امتثال أنقرة للعقوبات الغربية على موسكو، ما أدّى إلى تراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين، وسط تأجيل الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي إلى تركيا مرّات عدة، رغم الإعلان الرسمي عنها.
في الوقت نفسه، تمرّ السياسة الداخلية في تركيا بتغيرات ملحوظة، خصوصاً بعد الانتخابات المحلية التي شهدت خسارة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في كبرى بلديات البلاد ومجموع الأصوات. ويشير تعيين أردوغان لمحمد شيمشك وزيراً للمالية، المعروف بعلاقاته مع المؤسسات المالية الغربية، إلى احتمال العودة إلى المواقف المؤيّدة للعواصم الغربية، ما يتناقض مع طلب الانضمام إلى "بريكس".
ويدلّ فوز حزب "الرفاه مجدداً" الإسلامي المتشدّد في الانتخابات المحلية الأخيرة، إلى تزايد الاستياء من سياسات أردوغان، خصوصاً في ما يتعلق بعلاقات تركيا مع إسرائيل في ظل أزمة غزة. لذا، طلب الانضمام إلى "بريكس" يمكن أن يُنظر إليه أيضاً كمحاولة يبذلها الرئيس التركي لاستعادة جزء من رأس ماله السياسي المهدور، وإبعاد تركيز الرأي العام عن القضايا الداخلية.
صحيحٌ أن الاهتمام التركي بالمجموعة ليس جديداً، بل يعود إلى عام 2018، لكن الآراء المختلفة داخل الحكومة تسلّط الضوء على الانقسامات الداخلية، خصوصاً بين الداعمين للعضوية والمتمسّكين بالتوجّه الغربي. وعلى الرغم من أن المجموعة حظيت باهتمام أكبر مع تصاعد التوترات العالمية، فإنها لا تزال راكدة اقتصادياً وتفتقر إلى بديل متماسك للنظام الذي تقوده الغرب. وفي ظل غياب اتحاد جمركي أو عملة مشتركة داخل الكتلة، تبرز الفجوات الاقتصادية بين الدول الأعضاء كتحدّ أمام التكامل الاقتصادي المنشود.
تحدّيات لا بدّ منها
وفي حين يمكن أن تؤمّن عضوية "بريكس" لتركيا بعض التسهيلات في القروض والفرص الاستثمارية، فإنّها تحمل بعض المخاطر أيضاً، خصوصاً لناحية عدم توازن تجارتها مع أعضاء المجموعة، مثل الصين، إذ يواجه الميزان التجاري التركي – الصيني عجزاً كبيراً؛ أو روسيا التي باتت مؤثرة في الاقتصاد التركي إلى حدّ كبير من خلال قطاعات الطاقة والزراعة والسياحة بشكل خاص.
وما يزيد الشكوك، هو أن الخطوة التركية قد تكون تكتيكاً يلعبه أردوغان كوسيلة للتفاوض مع القوى الغربية، مستغلاً المناخ الإيجابي في العلاقات مع واشنطن بعد الموافقة الأميركية على بيع تركيا طائرات أف-16، مقابل المواقف الروسية المتباينة نحو الحليف التركي مؤخّراً، والتصريحات الروسية التي تلت الإعلان من موسكو، لا أنقرة، عن طلب الانضمام.
قبل أسبوع، ردّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الاستفسارات حول طلب تركيا الانضمام إلى الـ"بريكس"، مشدّداً على أن التوافق المتبادل بين الأعضاء الحاليين أمر أساسي، من دون أن ينسى الإشارة إلى أن عضوية تركيا في "الناتو" وطموحاتها طويلة الأمد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لا ينبغي أن تُعتبرا عقبتين أمام انضمامها إلى "بريكس".
عامل حاسم
لكن كبير الديبلوماسيين الروس شدّد في الوقت ذاته على أهمية معالجة الوضع في أوكرانيا كعامل حاسم في إمكانية عضوية تركيا، مذكّراً بأن أعضاء "بريكس" يجب أن يتشاركوا قيماً مشتركة، علماً أن تركيا دعمت أوكرانيا بشكل علني في الحرب، وصوّتت لصالح "إدانة غزو روسيا"، كما استمرت في تزويد كييف بالمسيّرات.
وفي تصريح متجدّد، عبّر أردوغان بالأمس عن موقف بلاده الرافض ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، قائلاً إن "دعمنا سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها دائم، فشبه جزيرة القرم تابعة لأوكرانيا، وضمان أمن ورفاهية تتار القرم الأتراك هو من بين أولويات سياستنا الخارجية".
كما أن الكتلة ذاتها منقسمة بشأن توسيع العضوية عموماً، وانضمام تركيا خصوصاً، في ظل مخاوف من عدم استقرار مناخ الاستثمار في تركيا والتنافس الإقليمي مع الدول الشرق أوسطية التي انضمت مؤخّراً.
يمثّل طلب تركيا الانضمام إلى "بريكس" تداخلاً معقّداً بين السياسة الداخلية والعلاقات الدولية والاستراتيجية الاقتصادية، ويثير تساؤلات حول التوجّه الجيوسياسي للبلاد كعضو في "الناتو" ومرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي، في مقابل سعيها إلى استكشاف سبل جديدة للتعاون الاقتصادي مع خصوم الغرب من خلال "بريكس".