النهار

جريمة قتل طفلة تركية تكشف المستور... "أوميرتا" وتحالفات سياسة تحمي الجناة
سركيس قصارجيان
المصدر: النهار العربي
شوهدت الطفلة نارين للمرة الأخيرة يوم 21 آب (أغسطس) 2024 وهي تغادر منزلها لحضور درس القرآن في إحدى القرى النائية على بعد 9 كم جنوب مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية. استغرق البحث عنها 19 يوماً قبل اكتشاف جثّتها في 8 أيلول (سبتمبر) 2024، في نهر بالقرب من قريتها، ملفوفة في كيس ومخفية تحت الحجارة والأغصان.
جريمة قتل طفلة تركية تكشف المستور... "أوميرتا" وتحالفات سياسة تحمي الجناة
الطفلة الضحية نارين غوران وفي الخلفية عملية البحث عن جثتها
A+   A-
جذبت قضية قتل الطفلة نارين غوران البالغة من العمر 8 سنوات، اهتمام الرأي العام التركي ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية، بسبب طبيعتها الوحشية والتعقيدات التي تنطوي عليها التحقيقات في ظل التشابكات السياسية للجريمة، والمرتبطة بحزب "هدى بار" (الدعوة الحرّة) الحليف للسلطة في البلاد.
 
وفي محاولة منه لتشتيت الأنظار عن التداخل السياسي للجريمة من جهة، وتمكين قاعدته الشعبية، من جهة أخرى، أطلق الحزب تصريحات جدلية مطالباً بإلغاء إلزامية علمانية الدولة من الدستور التركي، في توقيت اعتبر "خارج سياق" السياسة واهتماماتها الحالية.
 
جريمة بسبب علاقة بين والدة الطفلة وعمّها  
شوهدت الطفلة نارين للمرة الأخيرة يوم 21 آب (أغسطس) 2024 وهي تغادر منزلها لحضور درس القرآن في إحدى القرى النائية على بعد 9 كم جنوب مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية. استغرق البحث عنها 19 يوماً قبل اكتشاف جثّتها في 8 أيلول (سبتمبر) 2024، في نهر بالقرب من قريتها، ملفوفة في كيس ومخفية تحت الحجارة والأغصان.
 
أظهر تشريح الجثة لدى طبابة ديار بكر الشرعية عدم وجود جروح خارجية بأدوات حادة أو كدمات أو إصابات ناتجة من إطلاق نار، وقد حددت التحقيقات 26 مشتبهاً بهم، تم اعتقال 11 منهم على ذمّة التحقيق، ضمنهم والدة نارين وشقيقها و4 من أعمامها، بتهم القتل والتواطؤ في ارتكاب الجريمة.
 
تشير التحقيقات إلى احتمال أن تكون الطفلة الضحية قد شهدت سلوكاً غير أخلاقي بين والدتها وعمّها المشتبه به الثاني في القضية، ما أدّى إلى مقتلها، مع وجود العديد من التناقضات في تصريحات المشتبه بهم والشهود، الذين تقصّدوا تضليل التحقيقات من خلال إفادات زائفة، إذ أظهرت سجلات الهاتف المحمول عدم صحّة بيانات العائلة والجوار وإخفائهما التفاصيل الرئيسية أو تحريفها.
 
وبحسب المعلومات التي حصل عليها "النهار العربي" من مصدر في نقابة محامي ديار بكر، التي تتابع القضية عن كثب، أظهرت التحقيقات أن العم الكبير لنارين دعا إلى اجتماع عائلي بعد فترة قصيرة من اختفائها، طالباً من الحاضرين تلفيق شهادات كاذبة بشأن اختفائها، وبعد اكتشاف الجثة ضغط على أفراد الأسرة وسكّان القرية المحليين وهدّدهم مطالباً إياهم بالصمت.
ووفق المصدر الذي اشترط عدم الكشف عن اسمه "لحساسية الملف"، فإن الشكوك تحوم حول قيام شقيق نارين بقتلها في الحظيرة، وتسليم جثّتها إلى العم الذي نقلها بسيّارته وسلّمها إلى أحد الأقرباء طالباً منه دفنها في مكان بعيد، بوجود شخصين آخرين في السيارة، لم تعرف هويّتهما بعد.
 
وأفاد المصدر بوجود علامات خدش بالأظافر على ظهر شقيق نارين، المشتبه به الرئيسي، وجروح ناتجة من العض على ذراعه، ما يثير المزيد من التساؤلات حول الظروف المحيطة بوفاة الطفلة وسلوك الأسرة خلال الحادث.

علاقة السياسة بالجريمة
وأثارت الجريمة غضباً لدى شرائح واسعة من المجتمع التركي وفجّرت الجدل في البلاد حول العلاقات الأسرية والمعايير الاجتماعية وفعالية النظام القضائي في معالجة مثل هذه الجرائم الشائنة، بخاصة مع دخول السياسيين على خط القضية ومحاولة "لفلفتها" من خلال استخدام الضغط على سكّان القرية واستخدام السلطة القضائية لإخفاء تفاصيل الجريمة عن الرأي العام بقرارات حظر تداول الأخبار المتعلّقة بالجريمة وتهديد الصحافيين المنخرطين بالملاحقة القضائية وغيرها.
 
ومع استمرار التحقيق، نظّمت منظمات حقوق المرأة احتجاجات تطالب بالعدالة لنارين وتسليط الضوء على القضايا الأوسع المتعلقة بالعنف ضد النساء والأطفال الآخذة في التصاعد كثيراً في تركيا، لكن النظر إلى حالات القتل والاغتصاب والتنكيل بحق النساء والأطفال في المناطق ذات الغالبية الكردية، يكشف موقفاً اجتماعياً وسياسياً آخر وراءها.
 
في جريمة مقتل نارين وتداعياتها، تبرز نقطتان مهمتان: الأولى هي صمت عائلة نارين وقريتها، والثانية خطاب حزب "العدالة والتنمية" الحاكم وحلفائه في حزب "هدى بار" الكردي بضرورة عدم تدخل السياسة في هذه الجريمة.
 
صمت الأسرة والقرية المكوّنة من 300 شخص ينتمون إلى 17 عائلة، والذي استمر لأيام تم تشبيهه بقانون "أوميرتا" (الصمت) الخاص بالمافيا، فيما ظهر النائب الكردي عن حزب "العدالة والتنمية" غالب إنساريوغلو في تصريح أثار ردود فعل كبيرة حينما قال: "هناك أشياء لا نعرفها أحياناً وأشياء نعرفها ولكن لا نقولها. العائلة صديقة لنا"، كاشفاً عن السبب وراء محاولات حزب "العدالة والتنمية" وحزب "هدى بار" التستر على الجريمة.
 
تعرف القرية بولائها المطلق لحزب "هدى بار"، وريث "حزب الله" الكردي، المصنّف إرهابياً في تركيا، والذي استخدمته الدولة التركية ضد النضال القومي الكردي في تسعينات القرن الماضي، وقد شغل العم الكبير المشتبه به بارتكاب الجريمة منصب مسؤول الحزب في المنطقة.
 
يقول الصحافي التركي روشان تقوى لـ"النهار العربي": "عائلة نارين ليست فقط مقرّبة من حزب "هدى بار"، بل هي تمثّل نموذجاً جديداً من جيل يجمع بين أفكار التحالف الحاكم المتمثل بخليط من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وحزب هدى بار"، مضيفاً: "تُعد هذه العائلة جزءاً من جنود الإسلام السياسي الذين يشكّلون البرنامج الجديد الساعي إلى إعادة تصميم المنطقة وفق هذا التوجه".
 
 

"هدى بار" يفجّر مناقشات تعديل الدستور التركي
خطاب "عدم إقحام السياسة في جريمة القتل" والصمت الذي أعقب الجريمة وجهود السياسيين للتحول إلى "درع وقائية" للمشتبه بهم تجعل من جريمة قتل نارين جزءاً من العلاقات السياسية السائدة في المنطقة أخيراً ضمن "تحالف الشعب" الحاكم.
 
مع ارتفاع الأصوات المطالبة برفع الغطاء السياسي عن الجناة، وتحوّل الجريمة إلى قضية رأي عام أجبر الرئيس التركي ووزراءه ونوّابه على إطلاق التصريحات المؤكدة "متابعة القضية حتى النهاية"، ليخرج المسؤول في حزب "هدى بار"، فيدات تورغوت، معلناً أن "مثل هذه الوحشية ليست من ثقافتنا، إنها نتاج أوروبا وأميركا وإسرائيل"، في تصريح يتناقض مع تاريخ "حزب الله" التركي الحافل بجرائم القتل بواسطة "ربطة الخنزير" ودفن الجثث في أرضية مقار الحزب.
 
وبالتزامن مع تصاعد حدة المناقشات الداخلية التي فجّرتها الجريمة وتوجيه أصابع الاتّهام إلى نهج "هدى بار" القائم على حماية الجناة، صرّح رئيس الحزب زكريا يابيجي أوغلو، بضرورة تغيير المادة الرابعة من الدستور التركي الذي ينصّ على عدم المساس بالمواد الثلاث الأولى المتعلّقة بشكل العلم التركي وعلمانية الدولة وما هي العاصمة.
يعتقد الصحافي تقوى أن التصريح المذكور "يمكن إدراجه ضمن خطة هدى بار لتشتيت أنظار الرأي العام عن الجريمة وامتداداتها إلى داخل الحزب، وفي الوقت ذاته تمكين القاعدة الإسلامية، خصوصاً الكردية منها، وضمان التفافها حول الحزب".
 
تحالف حزب "هدى بار"، وهو الحزب الكردي القائم على القيم الدينية والمحافظة، مع حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي وحزب "الحركة القومية" اليميني التركي المتطرف لا يقتصر فقط على حسابات انتخابية قصيرة المدى، بل يمكن اعتباره جزءاً من استراتيجية أوسع.
فعقب تعيين حكومة "العدالة والتنمية" القائمين على البلديات (القيّوم) بدلاً من الرؤساء المنتخبين من مرشّحي حزب "ديم" اليساري الموالي للكرد، حاز المقرّبون من "هدى بار" مناقصات وفرص عمل في هذه البلديات، ما زاد من قوّته وشعبيته، وأكسبه بعداً اقتصادياً إلى جانب نموذج الإسلام السياسي المعروف به. بدءاً من المناقصات الصغيرة وحتى المشاريع الكبيرة، بات الحزب يظهر حضوره كجهة قادرة على خلق فرص عمل للجميع. ورغم اعتماده في الماضي على قاعدة دينية صغيرة، إلا أنّه بات اليوم يغتني متحوّلاً إلى قوّة الاقتصادية.
 
يشرح روشان تقوى أنّه "على رغم التناقض الظاهر بين التوجّه القومي لحزب الحركة القومية، والخطاب الإسلامي السياسي لحزب هدى بار، إلا أن استراتيجية الحكومة الحالية القائمة على بناء كيان بديل ومنافس للهيمنة السياسية والثقافية التي أسسها حزب ديم (الشعوب الديموقراطي سابقاً) الموالي للكرد تفسّر إلى حد كبير عمل العناصر القومية مع الكيان الكردي الإسلامي القومي في إطار هذا التحالف".
 
ويضيف الصحافي المتخصص في الحركات السياسية الكردية أن "دعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحزب "هدى بار" لا ينبع من حسابات تحقيق مكاسب انتخابية، بل ليكون الحزب الكردي نموذجاً بديلاً من القوى العلمانية واليسارية وأداة لتحقيق تحوّل سياسي وثقافي طويل الأمد في المنطقة الكردية ضمن استراتيجية أوسع".
ويمكن اعتبار "هدى بار" النموذج السياسي المستحدث عن تنظيم "حراس القرى" المشكّل من أفراد قبائل كردية متحالفة مع الدولة التركية ضد التيار اليساري المتمثّل بنهج "حزب العمال الكردستاني"، وقد لعب هذا التحالف دوراً رئيسياً في الحفاظ على العلاقات ما بين الإقطاعية القبلية والسلطات المتعاقبة، التي واصلت توفير الرواتب لأكثر من 75 ألف "حارس" في نظام "حراسة القرى" المؤسس عام 1985. ورغم وجود آلاف الملفات الجنائية المتعلّقة بحراس القرى، من قتل واغتصاب وتعذيب وخطف وتهريب أسلحة ومخدرات، إلا أن هذه الملفات تمّ التستر عليها للحفاظ على التحالف بين الدولة والقبائل.
 

اقرأ في النهار Premium