إذا كان تقرير صحيفة "واشنطن بوست" صحيحاً فمعنى ذلك أنّ تصوّر الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا بدأ يتبلور. لا تدلّ صيغته المفترضة إلى أنّه حلّ استثنائيّ، لكن على الأقلّ، إلى أنّ ترامب بدأ يبتعد عن خطاباته الفضفاضة بشأن وقف الحرب "في 24 ساعة" من دون تقديم آليّة لتحقيق ذلك.
ما أبرز نقاط الخطّة المفترضة؟
ذكرت الصحيفة نقلاً عن مسؤولين مطّلعين على الخطّة رفضوا الكشف عن اسمهم أنّ ترامب يريد دفع أوكرانيا إلى التخلّي عن منطقة دونباس وشبه جزيرة القرم لمصلحة روسيا. وقال الرئيس السابق إنّ روسيا وأوكرانيا "تريدان حفظ ماء الوجه، تريدان مخرجاً".
أضافت "واشنطن بوست" أنّ الكلمة عن خطّة ترامب بشأن أوكرانيا بدأت تتردّد في العاصمة الأميركيّة شهرَ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. حينها، عقدت "مؤسسة هريتدج" لقاءً لشخصيّات من يمين الوسط تُعنى بالسياسة الخارجيّة ووفد زائر من "المجلس الأوروبّيّ للعلاقات الخارجيّة". وصف مساعد ترامب الأسبق مايكل أنطون الخطوط العريضة المرتقبة لخطّة ترامب كتخلّي أوكرانيا عن أراضيها في الشرق والحدّ من توسّع الناتو وحضّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين على خفض اعتماد بلاده على الصين، بحسب عدد من الأشخاص الذين حضروا الاجتماع. لكنّ أنطون قال الشهر الماضي إنّه لم يلتقِ بترامب منذ 18 إلى 24 شهراً ونفى معرفته بهذه الخطّة.
Former president Donald Trump has privately said he could end Russia’s war in Ukraine by pressuring Ukraine to give up some territory, according to people familiar with the plan. https://t.co/1Btbf4xnA6
— The Washington Post (@washingtonpost) April 7, 2024
إضافة إلى ذلك، رفض الباحث في "مؤسّسة هريتدج" جيمس كارافانو التعليق على المحادثات الخاصّة، لكنّه قال إنّ فكرة إبعاد روسيا عن الصين "فكرة غبيّة". وتابع: "طريق التعامل مع العلاقة بين روسيا والصين هو في جعل روسيا شريكاً أضعف".
ورفض رئيس مكتب واشنطن لـ"المجلس الأوروبّيّ للعلاقات الخارجيّة" جيريمي شابيرو التعليق على التفاصيل امتثالاً للقواعد الناظمة لاجتماع تشرين الثاني، لكنّه قال إنّ خطة ترامب للسلام في أوكرانيا لم تبدُ مفصَّلة. ولفت النظر إلى أنّ مجموعة ترامب تظنّ أنّ الخطأ الأكبر هو دفع روسيا نحو أحضان الصين، مضيفاً أنّها تنظر إلى الحرب على أنّها نزاع إقليميّ عوضاً عن أن يكون متعلّقاً بمستقبل أمن أوروبا.
أين تترك كلّ تلك المعلومات المراقبين؟
في تعليق للصحيفة نفسها، قالت الناطقة باسم حملة ترامب كارولين ليفيت إنّ "أيّ تكهّن حول خطّة ترامب يأتي من مصادر غير مفصحة عن اسمها وغير مطّلعة ولا تملك أيّ فكرة عمّا يجري أو عمّا يحصل". وتابعت: "الرئيس ترامب هو الوحيد الذي يتحدّث عن وقف القتل".
في ترداد شبه مطابق لهذا الكلام، قال المستشار في حملة ترامب جيسون ميلر لصحيفة أخرى هي "نيويورك بوست" إنّ الخطّة الواردة في التقرير عبارة عن "أخبار مزيّفة". وأضاف: "الرئيس ترامب هو الوحيد الذي يتحدّث عن وقف القتل. (الرئيس الحاليّ) جو بايدن يتحدّث أكثر عن المزيد من القتل".
ليس هذا النفي إنكاراً لوجود خطّة كهذه بمقدار ما هو إعداد ذهنيّ محتمل لها. معبّر جداً تركيز المسؤولَين على "وقف القتل" لا على ضعف منطق الخطّة أو تعارضها مع توجّهات ترامب مثلاً. وإذا كان وقف القتل هو الهدف بصرف النظر عن أيّ جوانب أخرى فستكون هذه الخطّة منطقيّة جداً لتحقيقه من وجهة نظر فريق عمل الرئيس السابق.
من حيث المضمون، تبدو التصريحات الواردة في "واشنطن بوست" معبّرة عن وجهة نظر اليمين الجديد في الولايات المتحدة. من جهة، ينظر قسم كبير من المحافظين اليوم إلى الصين باعتبارها التهديد الأكبر للولايات المتحدة لا روسيا. في الواقع، هم قد ينظرون إلى روسيا باعتبارها حليفاً في الدفاع عن "القيم المحافظة". نتيجةُ ذلك أنّ مصالح بروكسل "الليبراليّة" لن تحتلّ مكانة متقدّمة على أجندتهم، بما فيها المصالح المرتبطة بـ"نزاعاتها الإقليميّة" مع جارتها. لهذا السبب، ليس غريباً أن تكون نظرة هؤلاء المحافظين إلى الحرب بين روسيا وأوكرانيا محصورة بتنازع حول مساحة من الأراضي وغير مرتبطة بهندسة أمنيّة واسعة لقارّة لم تعد تعني لهم الكثير. من هذا المنظور، سيكون تقديم أراض أوكرانيّة إلى روسيا "بادرة حسن نيّة" لتبدأ بالابتعاد تدريجياً عن الصين.
وترامب نفسه يريد أن يكون "صانع سلام" و"عاقد صفقات". حتى خلافه مع الصين قد لا يكون أيديولوجياً إلى حدّ بعيد. يسعى ترامب إلى تأكيد قدرته على إنهاء الحرب بأيّام قليلة والطريقة الأسرع نحو هذا الهدف هو خطّته المفترضة. في نهاية المطاف، ما هي هذه الخطّة سوى خطوة أبعد بقليل من تجميد النزاع عند الخطوط الحاليّة؟ وهذه الفكرة لا تحظى بدعم من المحافظين أو التيّار الترامبيّ وحسب، بل أيضاً من قبل بعض المحلّلين الغربيّين الليبراليّين، كما حصل مؤخراً حين اقترحت هيئة التحرير في "نيويورك تايمز" على أوكرانيا التخلي عن دونباس.
بساطة الخطّة تتوازى مع نظرة ترامب المبسّطة إلى الأزمات التي يمكن إنهاؤها بحسب رأيه عبر جمع الأعداء في غرفة واحدة واستخدام شيء من "السحر الشخصيّ" لحلّ المسائل العالقة. وواضحٌ أيضاً أنّ الخطّة المفترضة هي "آمنة" من ناحية المخاطر السياسيّة التي قد تحيط بترامب. فهي تكتفي بفرضيّة أنّ الحدود لن تتغيّر كثيراً في المرحلة القريبة المقبلة. على الرغم من توقّف المساعدات العسكريّة الأميركيّة لأوكرانيا، ومن تفوّق ناريّ روسيّ بنسبة خمسة إلى واحد في مواجهة أوكرانيا، سيطرت روسيا منذ بداية السنة على نحو 200 كيلومتر مربّع من الأراضي الأوكرانيّة. وفي جميع الأحوال، ستفضّل أوكرانيا، على ما تذهب إليه فرضيّة ترامب ومعاونيه، أن تحتفظ بما لديها الآن على أن تخسر المزيد في المستقبل، كما ستفضّل روسيا الاحتفاظ بما سيطرت عليه لغاية اللحظة، على أن تكسب المزيد لكن بتكلفة بشريّة هائلة.
مشكلة التبسيط... و"الانتحار السياسيّ"
حتى لو لاقت هذه الخطّة المفترضة انتقاداً محدوداً من الداخل الأميركيّ، ثمّة عوائق خارجيّة أمام تنفيذها. أوّلاً، تقترح الخطّة ما يجب على أوكرانيا التنازل عنه، لكن ليس ما ستحصل عليه في المقابل. لن يستطيع ترامب الاكتفاء بقول إنّ كييف لن تحصل على أيّ شيء باستثناء تفادي المزيد من الخسائر المستقبليّة، بينما ستحصل روسيا على المزيد من الأراضي وعلى تخفيف للعقوبات وربّما إنهاء للعزلة. في الأساس، تبدو الخطوط العريضة للصفقة المفترضة منصّة ممتازة لطلبات روسيّة إضافيّة.
من شبه المؤكّد ألّا تكتفي روسيا في المفاوضات بالمطالبة بمنطقة دونباس وزابوريجيا وخيرسون والقرم. هي تريد أيضاً منطقة أوديسّا. بذلك، ستحرم موسكو أوكرانيا من المنفذ البحريّ الذي لا يزال يبقي اقتصادها عائماً بشكل أو بآخر. وسيعطي ذلك مزيداً من النفوذ الروسيّ على البحر الأسود وامتداداً أوسع لأسطولها هناك. فما الذي سيكون عليه ردّ ترامب؟
President Trump: Zelensky is the greatest salesman in history every time he comes to the country he walks away with 50 or $60 billion dollars pic.twitter.com/2MJNRxZfK3
— TRUMP ARMY (@TRUMP_ARMY_) April 8, 2024
حتى مع افتراض عدم قبوله بهذا المطلب، تبدو أرضيّة الخطّة منحازة ضدّ أوكرانيا. فانضمامها إلى الناتو في المستقبل كتعويض عن خسائرها الميدانيّة أمرٌ غير مطروح بحسب معلومات "واشنطن بوست". يمكن قول الأمر نفسه عن ضمانة أمنيّة ثنائيّة. وفي الأساس، هل من يتذكّر تفاهم بودابست؟
تتّفق الباحثة في "بروكينغز" فيونا هيل مع المحلّل في "كارنيغي" مايكل كوفمان على أنّ الولايات المتحدة لن تملك النفوذ الكافي لدفع كييف وحتى أوروبا إلى الانخراط في ما قد يرقى إلى "انتحار سياسيّ".
بالفعل، أظهر التاريخ الحديث أنّ الولايات المتحدة لا تستطيع دوماً إجبار حلفائها على اتّباع رغباتها بالكامل. ربّما ينجح ترامب حيث فشل أسلافه؛ لكنّ الراجح هو أنّه، وفي حال فوزه بالانتخابات وتطبيقه خطّته المفترضة، سيعيد اكتشاف محدوديّة التأثير الأميركيّ على الحلفاء إذا وجدوا أنّه يطلب منهم الاستسلام غير المشروط. الحديث عن إنهاء الحرب بـ24 ساعة قد يتحوّل بسهولة إلى حديث عن إنهائها في 24 شهراً.