"لقد كان يصلّي". يبدو أنّ الصلاة باتت الملاذ شبه الوحيد في هذه الأيّام لرؤساء مجلس النوّاب الجمهوريّين. في حديث إلى شبكة "سي أن أن"، سرد رئيس لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النوّاب مايكل ماكول كيف كان رئيس المجلس مايك جونسون "ممزّقاً بين محاولة إنقاذ منصبه والقيام بالشيء الصحيح".
المقصود بـ"الشيء الصحيح" هنا وضع جونسون مسوّدة حزمة المساعدات الخارجيّة إلى أوكرانيا (وإسرائيل وتايوان) على جدول أعمال المجلس للتصويت عليها. كان ماكول حاضراً مع جونسون في الليلة التي سبقت الإفراج عن التشريع (الثلاثاء الماضي).
أربعة أسباب تفسّر سلوك جونسون
لم يكن جونسون من مناصري دعم أوكرانيا قبل توليّه رئاسة المجلس. بالتالي، هو واجه صعوبتين بالحدّ الأدنى: الانتقال إلى الضفّة الأخرى من السياسة تجاه أوكرانيا وتهديدات الجناح الجمهوريّ الشعبويّ الذي قد يتّجه إلى طرح مذكّرة لإقالته.
بحسب "سي أن أن"، ثمّة أربعة اعتبارات على الأقلّ دفعت جونسون إلى اتّخاذ الخطوة المثيرة للجدل: أوّلاً، حصوله على إخطار استخباريّ من مدير "سي آي إيه" بيل بيرنز عن سوء الوضع الأوكرانيّ وانعكاسات ذلك على المستوى العالميّ؛ ثانياً دخول نجله مؤخّراً الأكاديميّة البحريّة واحتمال إرساله إلى أوروبا في حال خسرت أوكرانيا الحرب؛ ثالثاً، الأجواء التي تقول إنّ الديموقراطيّين سيلقون طوق نجاة لجونسون في حال قرّر جمهوريّون إقران مصيره بمصير سلفه كفين ماكارثي؛ ورابعاً، حصول جونسون على دعم الرئيس السابق دونالد ترامب حين زاره في مارالاغو الثلاثاء الماضي.
It is been 480 days since Congress last approved a single dollar for Ukraine.
— Luke Coffey (@LukeDCoffey) April 16, 2024
يثير ذلك سؤالاً عن سبب سماح ترامب لجونسون بالمضيّ قدماً في إقرار المساعدات. في شباط (فبراير)، وقبل بدء مجلس الشيوخ التصويت على حزمة المساعدات، كتب ترامب على منصّة "تروث سوشل" وبأحرف كبيرة: "يجب علينا ألّا نعطي المال أبداً من دون أمل إعادة الدفع، أو من دون ‘شروط‘ مرتبطة. يجب أن تتوقّف الولايات المتحدة منذ اليوم عن أن تكون غبيّة!". واقترح ترامب خلال تجمّع انتخابيّ إعطاء المساعدات إلى أوكرانيا على شكل قروض. ونقلت "واشنطن بوست" لاحقاً عن مقرّبين منه قولهم إنّ ترامب يريد حضّ كييف على القبول بالتنازل عن الأراضي التي تحتلّها روسيا الآن في حال عاد إلى البيت الأبيض.
تمرّد
بحسب أحد التحليلات، يمكن تلمّس نوع من التمرّد الجمهوريّ، بالأخصّ بين الجمهوريّين التقليديّين، ضدّ الرئيس السابق. يشير ديفيد فروم في مجلّة "أتلانتيك" إلى أنّ المساعدات الأوكرانيّة تعرقلت في الكونغرس بدعم من ترامب، منذ فوز الجمهوريّين بمجلس النوّاب. لكنّ قسماً من الجمهوريّين لاحظ أنّه يخسر مقاعده التشريعيّة منذ 2018 كلّما ابتعد عن خطّه الكلاسيكيّ. وهناك أيضاً الشرخ الجمهوريّ الذي تبيّن في الأصوات التي حصدتها المرشّحة الرئاسيّة السابقة نيكي هايلي حتى بعد انسحابها من السباق. تضاف إلى ذلك المشاكل القضائيّة لترامب وتهديد الجمهوريّين لجونسون بفرض التصويت على جدول أعمال مجلس النوّاب بدون موافقته. ببساطة، كان ترامب خاسراً فقرّر دعم جونسون بحسب فروم.
Lindsey Graham on the Ukraine aid package: "This would not have passed without Donald Trump." pic.twitter.com/stFwhLcrEp
— Daily Caller (@DailyCaller) April 22, 2024
بالفعل، لجأ النوّاب إلى "عريضة التسريح" (discharge petition) لفرض التصويت على المجلس. يمكن لـ218 نائباً التصويت على نقل مسوّدة القانون العالقة إلى المناقشة العامّة من دون المرور برئاسة المجلس. قالت الأرقام الأخيرة إنّ العريضة كانت بحاجة إلى توقيع 27 نائباً جمهوريّاً إضافيّاً كي تنجح في تجاوز جونسون والذهاب إلى التصويت. عمليّاً، كيفما تمّ تقليب زاوية النظر إلى حزمة المساعدات، أمكن رؤية أنّ الأخيرة كانت ستُقَرّ في نهاية المطاف. بالتالي، فضّل ترامب وجونسون القفز إلى ضفّة الفائزين.
ليس معنى ذلك أنّ ما فعله جونسون لم يكن نابعاً عن قناعة. هو نفسه أوضح بعد إقرار الحزمة أنّه سيفضّل دوماً إرسال الرصاص إلى أوكرانيا عوضاً عن إرسال أبناء الأميركيّين إلى هناك. وأشار في حديثه أيضاً إلى أنّ المنتصر من هزيمة أوكرانيا سيكون الصين وروسيا وإيران. توحي هذه الكلمات بأنّ جونسون يدرك أهمّيّة حفاظ الولايات المتّحدة على النظام العالميّ الذي بنته بعد الحرب العالميّة الثانية وأنّ دعم أوكرانيا هو مساهمة في النظام العالميّ، بحسب رؤية الجناح التقليديّ في الحزب الجمهوريّ.
تفسيرات أخرى لسلوك ترامب
تبيّن تقاريرُ نقلاً عن مستشاريه أنّ الرئيس السابق غير راضٍ عن الانقسامات في صفوف الجمهوريّين، بالتالي، يمكن أن يكون دعم جونسون جزءاً من رؤية واسعة لتجنّب مزيد من الفوضى الحزبيّة على أبواب الانتخابات. وربّما تمكّن الرئيس البولنديّ أندريه دودا، وهو شخص يصفه ترامب بـ"صديقي"، من إقناع الرئيس السابق بمخاطر وقف الدعم عن أوكرانيا. حدث ذلك خلال زيارة لدودا إلى الولايات المتحدة الأسبوع الماضي. لكنّ ترامب يصغي لـ"صديق" آخر أيضاً هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي قال الشهر الماضي إنّ ترامب لن يعطي "فلساً واحداً" إلى أوكرانيا. جاء حديث أوربان بعد لقائه ترامب في مارالاغو. لم يعلّق الرئيس السابق على هذا التصريح.
ليس مستبعداً أيضاً أن يكون ترامب قد أجرى حسابات أخرى: الوصول إلى موعد المناظرات مع الرئيس جو بايدن في الخريف والأوكرانيّون يواجهون هزائم ميدانيّة كبيرة بسبب مواصلته عرقلة المساعدات. سيكون ذلك أفضل الرصاصات التي يتمتّع بها بايدن لإنهاك، إن لم يكن للقضاء على حظوظ ترامب الانتخابيّة. للتذكير، تشير استطلاعات الرأي الحديثة إلى أنّ دعم أوكرانيا يحظى بتأييد غالبيّة الأميركيّين. وترامب، كما أيّ مرشّح رئاسيّ أميركيّ، يجيد قراءة استطلاعات الرأي. وليس جميع موالي ترامب معارضين لدعم أوكرانيا عسكريّاً؛ بحسب استطلاعين للرأي على الأقلّ، يؤيّد بين 30 إلى 40 في المئة من مناصري ترامب مواصلة إرسال المساعدات إليها.
على الأرجح، ساهمت جميع هذه العوامل مجتمعة في عدم اعتراض ترامب على الحزمة. كانت الحسابات صعبة بلا شكّ، إذ إنّ إقرار المساعدات سيُترجم فوزاً لبايدن في نهاية المطاف. لكن على الأقلّ، يمكن لترامب الجدال في أنّه جزء، ولو متأخّراً، من معادلة الفوز هذه.