"يولّد ترامب الكثير من الكراهية في مجتمع أميركا. من منظوري، كلّما كرهوا بعضهم البعض كان ذلك أفضل بالنسبة إلينا". بالتأكيد، لم يعبّر أندريه سيدوروف من جامعة موسكو الرسميّة عن رأيه الشخصيّ وحسب. سيفيد الشرخ الأميركيّ كلّ خصوم الولايات المتحدة وفي مقدّمتهم روسيا والصين. ومع إدانة هيئة المحلّفين في نيويورك الرئيس السابق دونالد ترامب بكلّ التّهم الموجّهة إليه في قضيّة دفع أموال لشراء صمت ممثّلة أفلام إباحيّة بشكل مخالف للقانون، من المتوقّع أن يزداد هذا الشرخ في الأشهر المقبلة، على أبواب الاستحقاق الرئاسيّ.
سيخدم بوتين وشي
انقسم أميركيّون كثر بين مرحّب بالإدانة، وجلّ هؤلاء من الديموقراطيّين الذين فرحوا لأن "لا أحد فوق القانون"، وبين شاجب للحكم من قبل جمهوريّين يرون أنّ ترامب ضحيّة حملة "استخدام القانون كسلاح" بيد الديموقراطيّين. لا تتعلّق المشكلة بوجهات نظر مختلفة عن عمل القضاء الأميركيّ وحسب. فهناك أيضاً احتمال تحويل ترامب ولايته الثانية إلى منصّة لـ "الانتقام" من "أعدائه" المفترضين.
لكنّ الأستاذ الفخريّ للديموقراطيّة في جامعة تورونتو لوكان أحمد واي قال في حديث إلى مجلّة "فورين أفيرز" إنّ الأمر قد لا يختلف كثيراً لأنّه، مع أو بدون إدانة، سيسعى ترامب إلى الانتقام من خصومه في ولاية ثانية. يعتقد واي أنّ ما حصل، وخصوصاً إذا فاز ترامب بالانتخابات المقبلة، سيخدم الرئيسين الروسيّ فلاديمير بوتين والصينيّ شي جينبينغ، لأنّه يظهر فساد الديموقراطيّة ويجعلها أقلّ جاذبيّة.
(الرئيسان شي وبوتين، 2022، أب)
وردّاً على سؤال المحاور عن الفرضيّة الثانية التي تعتبر أنّ الإدانة تظهر سيادة القانون على الجميع مهما بلغ شأنهم ونفوذهم في الولايات المتحدة، أجاب واي: "ربّما. لكن في الغالبيّة العظمى من الديموقراطيّات حيث يقاضى المسؤولون الحاليّون والسابقون، في الدقيقة التي يتمّ خلالها توجيه الاتّهامات، يستقيل المسؤول أو يخرج بعيداً من السياسة. وهذا ما لم يحدث هنا".
"معركة بين مجرمين ومسنّين"
الانتقادات الصينيّة والروسيّة لما حدث في أميركا متوقّعة. لكن برزت على ما يبدو بعض الاختلافات الدقيقة. قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إنّ "حقيقة وجود إقصاء يتمّ هناك (في الولايات المتحدة) بحكم الأمر الواقع للخصوم السياسيّين بمختلف الوسائل القانونيّة وغير القانونيّة، واضحة". ردّ وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن على هذا التصريح واصفاً إيّاه بأنّه "حالة كلاسيكيّة من الإسقاط"، أي إسقاط السلوك الروسيّ على القراءة للسلوك الأميركيّ.
من جهتها، نقلت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينيّة عن أستاذ جامعة الصين للشؤون الخارجيّة لي هايدونغ قوله إنّ "مواقف كلا الحزبين تعكس كذلك تعفّن السياسة الأميركيّة، ويبدو أنّ القانون الآن يُستخدم سلاحاً سياسيّاً". وقال تعليق على موقع "غوانشا" الرسميّ إنّ الانتخابات أصبحت "معركة بين أشخاص مسنّين ومجرمين".
للتعليقات الصينيّة أهمّيّتها الخاصّة بالنظر إلى اعتقاد بكين الطويل الأمد بأنّ الولايات المتحدة قوّة في طور الأفول وأنّها ستحلّ مكان واشنطن في زعامة العالم. وتهتمّ الصين في هذا السياق بتصوير نظامها السياسيّ على أنّه متفوّق في مواجهة النظام السياسيّ للولايات المتحدة. بالحدّ الأدنى، هي تريد إظهار أنّ الديموقراطيّة وحقوق الإنسان ليست مفاهيم شاملة وأنّه يمكن فهمها من منظور ما في اليونان، ومن منظور آخر في بكين. في الوقت نفسه، من اللافت أنّ التعليقات الصينيّة على حكم الإدانة، تأتي في الغالب الأعمّ من محلّلين سياسيّين لا من مسؤولين رفيعي المستوى، وهذا على عكس ما حدث في روسيا مثلاً. تفسير ذلك، بحسب الأستاذ المساعد في جامعة سينغافورة الوطنيّة ألفرد وو، أنّ الصين تريد تفادي مهاجمة دونالد ترامب لأنّه إذا أصبح رئيساً فقد تواجه عواقب. "عوضاً عن ذلك، من المرجّح أن يستخدموها (الإدانة) من أجل إظهار مشاكل النظام الأميركيّ".
بالفعل، حين سئل يوم الجمعة عمّا إذا كانت إدانة ترامب ستمنعه من زيارة الصين لو أعيد انتخابه أو تمثّل أيّ صعوبات أخرى للعلاقات الصينيّة-الأميركيّة، رفض الناطق باسم وزارة الخارجيّة الصينيّة ماو نينغ التعليق واصفاً الأمر بأنّه من الشؤون الداخليّة للولايات المتّحدة.
الهدف الأوّل للصراع الدائر
في هذا الصراع الإعلاميّ على أفضليّة أيّ من النظامين، تبقى دول العالم الثالث، أو ما يصطلح تسميته بدول "الجنوب العالميّ"، الهدف الأوّل لهذا الصراع. فالأميركيّون والصينيّون لا يريدون إقناع بعضهما البعض بحيويّة نظاميهما بمقدار ما يريدون إقناع "الجنوب" بذلك، لأنّه سينعكس على حجم التحالفات التي يعقدها كلّ من الجبّارين على حساب الآخر. وفي جميع الأحوال، لا يساعد ترامب كثيراً صورة الولايات المتحدة على مستوى العالم، بصرف النظر عن تقييمه لما يحدث معه.
(المدّعي العام في مانهاتن الذي وجّه التّهم إلى ترامب ألفين براغ - أب)
فبمجرّد أن يقارن سلوك القضاء الأميركيّ بسلوك القضاء في دول العالم الثالث، يثير ترامب حفيظة حكومات وشعوب "دول الجنوب العالميّ" بشكل تلقائيّ؛ ومن دون وجه حقّ، بحسب الكاتب في مجلّة "فورين بوليسي" هوارد فرنش. وكتب فرنش: "ثمّة الكثير من الدول في البحر الكاريبي وأفريقيا التي هي أفقر بما لا يقاس من الولايات المتحدة في المعايير الإحصائيّة الجافّة لكنّها قادرة على التعامل مع الانتخابات بطريقة أكثر ديموقراطيّة بكثير من ترامب وداعميه". ويقدّم فرنش "المؤتمر الوطنيّ الإفريقيّ مثلاً على تحليله، بعدما خسر غالبيّته البرلمانيّة للمرّة الأولى منذ عقود و"بلا أيّ شكوى".
"سيلٌ من السّمّ"
لا أحد يتوقّع أن تكون كلمات "بلا أيّ شكوى" عنوان المرحلة المقبلة في الولايات المتّحدة. على العكس من ذلك، قد تكون المرحلة المقبلة حتى أصعب من الأحداث التي سبقت اقتحام مبنى الكابيتول سنة 2021، بحسب ما قاله مؤرّخ الشؤون الرئاسيّة في شبكة "سي أن أن" تيموثي نفتالي: "سيولّد ذلك، بنظري، سيلاً من السّمّ يُرجَّح أن يكون أسوأ ممّا شهدناه في حملة ‘أوقفوا السرقة‘ التي سبقت 6 كانون الثاني، وهذا سيزيد من زعزعة استقرار دولة هي حسّاسة في الأساس".
قد لا تنزعج روسيا والصين، ومعهما إيران بطبيعة الحال، إذا تبيّن أنّ نفتالي محقّ.