نادراً ما ارتبط اسم عالِم سياسيّ بفكرة أو بمصطلح كما هي الحال مع اسم فرنسيس فوكوياما. مع استحضار الاسم تُستحضر تلقائيّاً كلمتان: "نهاية التاريخ". طرح فوكوياما فكرته مرّة على شكل مقال في مجلّة "ناشونال إنترست" سنة 1989 تحت عنوان "نهاية التاريخ؟" ومرّة أخرى في كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" سنة 1992.
رأى فوكوياما أنّ الديموقراطيّة الليبراليّة المستندة إلى السوق هي الشكل الأكثر مثاليّة للتنظيم السياسيّ والاجتماعيّ للإنسان وأنّ الأخير سيظلّ يسعى إليها لتحقيق رفاهيّته. بمرور السنوات والعقود، يعتقد كثر أنّ الفكرة عفّى عنها الزمن. بالرغم من أنّه صاغ طروحاته منذ أكثر من 30 عاماً، لا يزال محلّلون يعودون إليها بين الحين والآخر مستعرضين حزمة من الأدلّة على ضعف، إن لم يكن على نهاية فكرته. فالديموقراطيّة الليبراليّة تتآكل حول العالم وتفقد بريقها، حتى بين الدول العريقة في اتّباع هذا النظام كالولايات المتحدة. يعني ذلك بدوره أنّ الديموقراطيّة الليبراليّة ليست ذروة ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان من أجل رفع مستوى معيشته وتحقيق أحلامه. فهل تدفعه كلّ هذه التطوّرات التي لا لبس فيها إلى التراجع عن "خطئه" وإعادة تغيير طروحاته القديمة؟
لا. في مقال من جزأين نشرتهما أواخر أيار (مايو) وأوائل حزيران (يونيو) مجلّة "أميركان پورپوز" التي يرأس هيئة التحرير فيها، يدافع فوكوياما بقوّة عمّا كتبه في السابق. في المقال الذي أتى تحت عنوان "ضجر في نهاية التاريخ"، يعترف فوكوياما بأنّ الديموقراطيّة الليبراليّة تنحسر حول العالم مستعيناً بأرقام التقرير الأخير لمنظّمة "فريدوم هاوس" المعنيّة بقياس الحرّيّات السياسيّة والمدنيّة حول العالم. لكنّه يشير إلى الكثير من الالتباس، كما الضعف، في أفكار النقّاد.
ما قاله وما لم يقله
لم تكن "نهاية التاريخ" توقّعاً "بالانتشار الحتميّ للديموقراطيّة الليبراليّة في جميع أقطار العالم على المدى القريب". كانت حجّته أنّ الديموقراطيّة الليبراليّة المرتبطة باقتصاد السوق لم يكن لديها منافسون في تأمين أشكال أكثر تفوّقاً من النظام الاجتماعيّ. بشكل مباشر، إنّ قلّة من مناوئي الديموقراطيّة الليبراليّة قادرة على صياغة رؤية واضحة لنظام اجتماعيّ بديل أكثر تفوّقاً بشكل ممنهج. ويعتبر أنّ ثمّة بدائل تستند إلى إعطاء الامتيازات لمجموعات فرعيّة من الناس على حساب مجموعات أخرى، بناء على معايير الدين أو الإثنيّة أو القوميّة، لكنّ هذه البدائل لا تتمتّع بالجاذبيّة.
Francis Fukuyama's critics decry his "end of history" thesis. What they forgot is “The Last Man.”@FukuyamaFrancis takes on the haters in his latest for AP.https://t.co/aFhotGK1yI
— American Purpose (@americanpurpose) May 31, 2024
من منظور فوكوياما، إنّ "الرجل الأخير" (عبارة للفيلسوف نيتشه في الأساس) هو كائن من دون افتخار أو سعيٍ ليكون شيئاً أفضل وهو راضٍ بالملذّات الصغيرة والرفاه المادّيّ. مع ذلك، ثمّة واقعٌ آخر يعترف به فوكوياما: لن يكون الجميع قانعاً بأن يجسّد "الرجل الأخير". هو يشير إلى وجود جزء آخر من سيكولوجيا الإنسان يدفعه للسّعي إلى ما هو أكثر من مجرّد الراحة المادّيّة. إنّه "ثايموس" بحسب صياغة أفلاطون في كتابه "الجمهوريّة"، ويشير إلى الغضب الذي يعتري الإنسان حين يشعر بقلّة الاحترام، أو الشعور بالفخر عندما يُنظر إليه على أنّه أفضل من الآخرين. "هنا يكمن عدم الاستقرار الأساسيّ للديموقراطيّة الليبراليّة اليوم".
اللافت أنّ فوكوياما، وفي إطار دفاعه عن فكرته، لا يقوم بإعادة شرح نظريّاته السابقة لتناسب الحقبة الحاليّة. الكثير ممّا يشاهده العالم اليوم قاله سنة 1992: "تقترح التجربة أنّه إن لم يتمكّن الرجال من النضال لمصلحة قضيّة عادلة لأنّ هذه القضيّة العادلة كانت منتصرة في جيل سابق، فعندها سيناضلون ضدّ القضيّة العادلة (الكتابة اللاتينيّة لكلمة "ضدّ" هي لفوكوياما). سيناضلون من أجل النضال. سيناضلون، بكلمات أخرى، بسبب ضجرٍ ما: لأنّهم لا يستطيعون تخيّل العيش في عالم من دون نضال. وإذا كان الجزء الأعظم من العالم الذي يعيشون فيه متّسم بديموقراطيّة مسالمة ومزدهرة، فعندها سيناضلون ضدّ ذلك السلام والازدهار، وضدّ الديموقراطيّة". يعلّق فوكوياما على ما كتبه في ذلك الوقت فيوضح أنّ "الصراع من أجل الصراع هو ما يحصل حين نكون في نهاية التاريخ".
غضب اليمين واليسار
يشدّد فوكوياما على أنّ أقصى اليمين وأقصى اليسار لا يملكان رؤية لمستقبل أفضل. الطرف الأوّل يريد العودة إلى فترة يُفترض أنّ أميركا كانت عظيمة فيها كالخمسينات أو حتى أواخر القرن التاسع عشر. لكنّ قلّة من الناس تريد التظاهر بقوّة لتحصل على رفاهية العيش التي كانت موجودة سنة 1952 على سبيل المثال.
على الضفة الأخرى، ما من رؤى تقدّميّة لمجتمعات بديلة لم تتمّ تجربتها. فالماركسيّة-اللينينيّة ثبت أنّها فظاعة أخلاقيّة بعد انهيار الشيوعيّة كما أنّ الديموقراطيّة الاجتماعيّة الأكثر اعتدالاً خضعت للدمج عن طيب خاطر في دول الرفاهية الاجتماعيّة. ويريد بعض البيئيّين المتطرّفين مستقبلاً بنموّ سلبيّ للتعامل مع أزمة المناخ، لكن لن يخاطر أحد بحياته ليصبح الجميع أفقر. لا يبدو هذا، بحسب فوكوياما، أكثر جاذبيّة من الحلم المحافظ بالعودة إلى سنة 1952 حين كان العالم يضخّ الكربون بكمّيّة أقلّ بكثير من اليوم. بغياب رؤى معقولة لمستقبل أفضل، يبقى لدى الطرفين، بحسب التحليل نفسه، دفعُ الناس إلى حالة من الذعر من سوء الوضع الحاليّ.
Democracy is arguably boring, but no other political system or charismatic leader — no matter how exciting or energizing they seem — is a better alternative for addressing social issues and injustices, writes @FukuyamaFrancis. https://t.co/XNzzsAhf7J
— FSI Stanford (@FSIStanford) June 6, 2024
يشير فوكوياما إلى أنّ المشاكل التي لا تزال موجودة في المجتمعات الليبراليّة تتطلّب عملاً بطيئاً وثابتاً عبر التشريع والتعبئة والإقناع وبناء الهياكل المؤسّسيّة والمادّيّة. "إنّ تركيزاً على الإصلاح مضجر: تحتاج المشاكل إلى أن تُحلّ بطريقة تدريجيّة وعلى فترات طويلة من الزمن".
ويحذّر في النهاية من أنّ النضال ضدّ الديموقراطيّة الليبراليّة سينتج على الأرجح عالماً أسوأ من الحاليّ. "هذا هو الوضع الذي نواجهه اليوم، نتيجة كانت متوقّعة بشكل مثاليّ منذ أكثر من ثلاثين عاماً".
أين يتركنا كلّ هذا؟
بمعنى آخر لتحليل فوكوياما، لا يزال التاريخ في مرحلته النهائيّة. كلّ الغليان الشعبيّ في الغرب، إن صحّ هذا التوصيف، لا يفتقر إلى بديل جدّيّ عن الديموقراطيّة الليبراليّة وحسب. معاركه هي في مكان آخر إلى حدّ ما. فعدوّه الأوّل هو "النخب"، مهما كانت تعنيه هذه العبارة المبهمة. يُفترض أن تكون كلمة "نخبة" دلالة إلى أشخاص يتمتّعون بأفضل الخبرات والكفاءات في مجال تخصّصهم. حتى مع افتراض تحوّل دلالة هذه الكلمة إلى أشخاص عزلوا أنفسهم عن المجتمع وبنوا الثروات على حسابه، لا يغيّر هذا الواقع أنّ أقصى اليمين وأقصى اليسار عاجزان عن الذهاب إلى ما هو أبعد من التخلّص من هذه "النّخب"، بالشكل الأعمّ، عن طريق الديموقراطيّة الليبراليّة نفسها.
لا تعني الديموقراطيّة الليبراليّة إجراء انتخابات فقط، بل ضمان حرّيّة التعبير وفصل السلطات وكلّ ذلك للحدّ من نزعة الدولة للاستبداد، أو من نزعة الأكثريّات لقمع الأقلّيّات. وبطبيعة الحال، يرتكز هذا النظام إلى اقتصاد السوق الحرّة لأنّه يحمي حقّ التملّك. على سبيل المثال، يطالب مناصرو دونالد ترامب بـ "فصل السلطات" من أجل وقف "الملاحقات غير القانونيّة" بحقّ رئيسهم السابق، على اعتبار أنّ الرئيس جو بايدن "يسخّر" القضاء لاستنزاف تأييد منافسه الشعبيّ. بصرف النظر عن مدى صحّة ادّعاء هذا الفريق، يبقى أنّ جزءاً كبيراً منه يطالب بتطبيق ما يتصوّر على الأقلّ أنّه أحد بنود الديموقراطيّة الليبراليّة. بالمقابل، يطالب المعتصمون في الجامعات بحماية واشنطن لعالميّة حقوق الإنسان وعدم إنكار هذا الأمر عندما تتعلّق حقوق الإنسان تحديداً بالإنسان الفلسطينيّ. لا يطالب بهذا الأمر شبّان من أقصى اليسار وحسب. يمكن تعداد الكثير من الأسماء البارزة في صناعة الرأي العام الغربيّ التي ترفض سياسة بايدن في غزّة، بالتحديد بسبب دفاع هذه الأسماء عن القيم التي تنادي بها واشنطن.
Francis Fukuyama, 'The End of History and The Last Man' pic.twitter.com/uRegRnvojd
— Chris Hattingh 🌐🚢🏭📈 (@ChrisHatt11) May 3, 2024
يمكن العثور دائماً على فئات ضمن أقصى اليمين وأقصى اليسار تطالب بتغيير النظام ككلّ، لكنّها حتى الآن عاجزة عن إقناع فئات أوسع بذلك، ناهيكم عن طرح بديل متكامل لما تريده هي. وحتى خارج العالم الغربيّ، لا تطالب الدول الأوتوقراطيّة بنشر نموذجها في الخارج. في ما يتعلّق بالصين تحديداً، القطب القادر نظريّاً على الترويج لنموذجه، قد ينطلق الأمر من قناعة حقيقيّة لدى بكين بعدم جدوى هكذا محاولة، أو من انتظار الفرصة واللحظة المناسبتين للعمل على هذا الهدف. في كلتا الحالتين، تواجه الصين حاليّاً صعوبة في تصدير نموذجها. فعلى الرغم من أنّ دول الجنوب العالميّ تنظر بإيجابيّة إلى العلاقات الاقتصاديّة مع بكين، يُظهر استطلاع للرأي أنّه حتى في أفريقيا، القارّة التي تقيّم بإيجابيّة كبيرة تأثير الصين بالمقارنة مع القارّات الأخرى، ثمّة حدود للإقبال على تبنّي النموذج الصينيّ. في استطلاع "أفروباروميتر" (2019-2020) لـ 34 دولة أفريقيّة، وصف 63 في المئة من المستطلعين النفوذ الصينيّ بالإيجابيّ. لكنّ 22 في المئة فقط قالوا إنّ النموذج الصينيّ هو الأفضل للتنمية المستقبليّة. في 2020-2021، انخفضت نسبة الناظرين بإيجابيّة إلى النفوذ الصينيّ في أفريقيا إلى 51 في المئة (و49 في المئة لأميركا). وفي مقابل تصاعد بعض التشكيك في الممارسة الديموقراطيّة ضمن الغرب، يمكن ملاحظة أنّ الأحزاب الحاكمة لفترة طويلة في دول مثل الهند وتركيا وجنوب أفريقيا تتقبّل نتائج الانتخابات على الرغم أنّها كانت أقلّ من التوقّعات.
مجدّداً، لم يقل فوكوياما إنّ الصراع سيتوقّف عند "نهاية التاريخ" وإنّ الإنسان سيحقّق كلّ ما يصبو إليه عند هذه المرحلة، بما أنّ التقلّبات السيكولوجيّة تقف أساساً ضدّ نتيجة كهذه، وسيظلّ القادة الشعبويّون قادرين على استغلال وتر هذه التقلّبات إلى حدّ كبير. لن ينتهي الجدل قريباً بشأن ما إذا كان "التاريخ" فعلاً تاريخاً واحداً أو عدداً من التواريخ الخاصّة بكلّ ثقافة ومجتمع. بحسب الأستاذ الباحث في جامعة مدينة نيويورك برانكو ميلانوفيتش يعتقد أنّ اعتماد جميع المجتمعات النظام نفسه مجرّد "وهم". كما قد يكون هناك نزعة للخلط بين معطيات المرحلة الراهنة والمستقبل البعيد، أو بحسب تعبير الكاتب نيك سبنسر، خلطٌ بين "الطقس السياسيّ" و"التاريخ المناخيّ".
لكن في الوقت الراهن على الأقلّ، وبالتحديد في ما يخصّ العالم الغربيّ الذي اختبر العديد من الأفكار الثوريّة، السلبيّة منها والإيجابيّة، يبدو فوكوياما محقّاً في حجّة أساسيّة بالحدّ الأدنى: ما من نظام جدّيّ مطروح لاستبدال الديموقراطيّة الليبراليّة. والتصحيح الوحيد المتاح لعيوبها الحاليّة قد يكون مزيداً من الديموقراطيّة الليبراليّة. المشكلة أنّ هذا التصحيح، كما يعترف فوكوياما، ذو مسار مُضجِر. لا يأتي الضجر مجرّداً من أيّ ثمن.