أصيب الديموقراطيّون بحالة "ذعر" بعد المناظرة الرئاسيّة الأميركيّة. من سخرية القدر أنّ تلك الحالة يمكن أن تنتقل إلى المعسكر الجمهوريّ في وقت لاحق. حقّق الرئيس السابق دونالد ترامب فوزه "الكاسح" على الرئيس الحاليّ جو بايدن، بالتحديد على مستوى الشكل، لأنّ بايدن بدا متلعثماً ومتجمّداً في بعض محطّات المناظرة، وخصوصاً في بدايتها.
شبّه الإعلاميّ الليبراليّ بيل ماهر ما حصل مع ترامب بالضربات القاضية التي كان الملاكم مايك تايسون يوجّهها لمنافسيه بعد نحو 90 ثانية على انطلاق المباراة. برأيه، تلقى بايدن "الضربة القاضية" لحظوظه الانتخابيّة بعد نحو دقيقتين على البداية.
لاحظوا ما قاله "الفائز"
في سباق يضمّ رجلين منخفضي الشعبيّة، من المنطقيّ أن يتحدّد الفائز بالقدرة على إثبات أنّه "الأقلّ سوءاً" من الآخر. بحسب استطلاعات الرأي، كانت فرص بايدن وترامب شبه متساوية، مع تقدّم طفيف للثاني على الأوّل. بعد المناظرة، انكسرت المعادلة. بات ترامب الأقدر على تولّي الرئاسة لأنّه متحرّر (تقريباً) من آثار التقدّم في السنّ. هذا هو الانطباع الأميركيّ العامّ الذي قد يدفع الناخبين إلى التصويت لترامب في تشرين الثاني (نوفمبر). بطبيعة الحال، لا تزال الفترة الفاصلة طويلة نسبيّاً، وإمكانات تحقيق العودة قائمة. لكن بالنسبة إلى بايدن، يبقى عامل الوقت عدوّه الأوّل. لذلك، قد لا يجد الديموقراطيّون خياراً أفضل من إقناع بايدن بالانسحاب من السباق. هنا، تصبح مشكلة بايدن مشكلة ترامب أيضاً.
بعد المناظرة، ألقى ترامب خلال تجمّع انتخابيّ في فرجينيا كلاماً لافتاً للنظر. بحسب الرئيس السابق، لا تكمن مشكلة بايدن في تقدّمه بالسنّ بل في سياساته "الراديكاليّة". وأضاف ترامب أيضاً أنّ جميع البدلاء الديموقراطيّين المحتملين لبايدن لن يحقّقوا نتائج أفضل من تلك التي سيحقّقها بايدن. كأنّ في هذا الكلام دعوة غير مباشرة إلى الديموقراطيّين للإبقاء على الرئيس الحاليّ، طالما أنّ شيخوخة بايدن ليست مشكلته الأولى وطالما أنّ الخيارات الأخرى لن تكون أفضل حالاً. ليست هذه مقاربة الديموقراطيّين. دعوات "سي أن أن" و"نيويورك تايمس" إلى إيجاد بديل عن بايدن تقوم على أنّ الرجل لا يزال صاحب أفكار وسياسات إيجابيّة، لكنّ تدهور صحّته يمنعه من منح الناخبين مقوّمات الثقة بقدرته على قيادة أميركا.
"الفارس القادم" و"الشيطان الذي تعرفه"
أحد الأدلّة إلى أنّ كلام ترامب خلال التجمّع الانتخابيّ قد يكون تعبيراً عن خوف ضمنيّ من تغيير تذكرة الترشيح الحزبيّة هو مقال نشره موقع "ذا هيل" لمستشار السياسات والتواصل الذي خدم في عهدي ريغان وبوش الابن دوغلاس ماكينون.
رأى ماكينون أنّ ترامب لن يكون مرتاحاً أمام سيناريو استبدال بايدن بمرشّح آخر. قد ينجح ترامب في التغلّب على هذا البديل أو قد يفشل، لكنّ لبّ السؤال هو هذا: "هل من الأفضل أن تترشّح ضدّ ‘الشيطان الذي تعرفه‘ عوضاً عن الشيطان الذي لا تعرفه؟"
لماكينون صورة تعبيريّة أخرى بالغة الدلالة: "إذا كنتم فريق ترامب، فآخر شيء تودّون رؤيته هو ‘فارس بدرع مشعّ‘ يدخل مؤتمر شيكاغو (للديموقراطيّين) من أجل ‘إنقاذ‘ الحزب الديموقراطيّ". يمكن أن يتفوّق ترامب على ذلك الفارس، "لكن سيكون أفضل بكثير مواجهة ذلك الذي سبق أن بدأ ينزلق عن جواده".
هل تذكرون السلّم الكهربائيّ؟
من الواضح أنّ ترامب تفادى لغة التحدّي في خطاب ما بعد المناظرة. لم يدعُ ترامب الديموقراطيّين إلى اختيار أفضل ما لديهم لمواجهته. ربّما لأنّه يعرف في قرارة نفسه أنّه لو اتّفق الديموقراطيّون على اسم آخر فستكون المعركة المقبلة أصعب. وسيواجه ترامب المرشّح الجديد خلال المناظرة الثانية المؤكّدة في 10 أيلول (سبتمبر)، وربّما في مناظرة أخرى محتملة في تشرين الأوّل (أكتوبر). ترجمة ذلك أنّ احتمالات خسارته في انتخابات تشرين الثاني ستزداد.
يدرك ترامب أكثر من غيره لعبة الاستعراض والأضواء. إذا كان مشهد نزوله على سلّم كهربائيّ في برجه الخاص لإعلان ترشّحه الرئاسيّ سنة 2015 نقطة مفصليّة في تاريخ الحزب والولايات المتّحدة، فإنّ مجيء "فارس" ديموقراطيّ وسط مشهد استعراضيّ حماسيّ في مؤتمر شيكاغو قد يمثّل ما يوازي أو ما يفوق تلك النقطة المفصليّة أهمّيّة بالنسبة إلى الديموقراطيّين.
حتى الانتصار له حدود
إلى الآن، لا يزال الديموقراطيّون متمسّكين ببايدن. وأعلن الأخير أيضاً في خطاب قويّ بعد المناظرة أنّه "سينهض من جديد". هذه من أشدّ الأنباء إثارة للحماسة لدى ترامب. لكن إذا كان الديموقراطيّون يعدّون في السرّ لشخصيّة أخرى تخلف بايدن فقد ينقلب الوضع رأساً على عقب خصوصاً إذا كانت تلك الشخصيّة تتمتّع بتأييد شعبيّ واسع وبدعم من الرئيس. وقد يتحمّل ترامب وحده هذه المسؤوليّة.
فهو من أصرّ على أنّ بايدن يخشى مواجهته في مناظرة عامّة، ممّا أجبر الديموقراطيّين والرئيس على قبولها، ربّما بناء على فكرة أنّ مناظرة مبكرة بشكل غير اعتياديّ تمنح الحزب الديموقراطيّ بعض الوقت لصياغة خطّة طوارئ في حال أخفق بايدن. في سيناريو مثاليّ لترامب، أمكن أن تنتهي المناظرات بفوز غير كاسح للمرشّح الجمهوريّ الأمر الذي يبقي على حظوظ بايدن قائمة، وإن مقلّصة بشكل هامشيّ. يضمن ذلك استمرار بايدن حتى النهاية ممّا يعزّز آمال ترامب الرئاسيّة. الآن، ثمّة احتمال جدّيّ في ألّا يتحقّق هذا السيناريو.
قد يكون بيل ماهر محقّاً في أنّ المرشّح الجمهوريّ وجّه "ضربة قاضية" لبايدن ليلة الخميس. لكنّها قد تكون أيضاً "ضربة قاضية" لحظوظ ترامب نفسه.