النهار

أوكرانيا والنّاتو في عيده الـ 75... الحصان خلف العربة
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
هل يقاتلون "الذئب" بعد انسحابه؟
أوكرانيا والنّاتو في عيده الـ 75... الحصان خلف العربة
قمّة حلف شمال الأطلسي في واشنطن (أ ب)
A+   A-

يصعب، إن لم يكن يستحيل، إنكار نجاح حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) بعد 75 عاماً على تأسيسه. أن ينطلق حلفٌ دفاعيّ من نادٍ يضمّ 12 دولة إلى آخر يشمل 32 هو ديناميّة فريدة في العلاقات الدوليّة المعاصرة. لا شكّ في أنّ ركيزة الناتو، الولايات المتحدة، تلعب الدور الأساس في ديناميّة النجاح هذه؛ لكن أيضاً في ديناميّات متعثّرة أخرى، ربّما تكون أحياناً أقلّ عرضة للأضواء الإعلاميّة.

 

منذ إعلان قادة الناتو في قمّة بوخارست 2008 عن الخطوة المبهمة بترك باب العضويّة مفتوحاً أمام أوكرانيا وجورجيا كي تنضمّا إليه في المستقبل، أو بشكل أدقّ في مستقبلٍ ما، توالت الأسئلة عمّا إذا كان ذلك أفضل ما أمكن أن يخرج به المجتمعون آنذاك. لم يتعلّق الموضوع فقط بالوصول إلى تسوية بين الولايات المتحدة من جهة، وألمانيا وفرنسا من جهة أخرى، إذ كان الطرف الثاني رافضاً منح أوكرانيا "خطّة عمل العضويّة". فغالباً ما أثيرت شكوك حيال ما إذا كانت لدى الغرب خطّط مستقبليّة لهذا الملفّ أو أنّه كان ببساطة يؤجّل المشكلة كي تتعامل معها حكومات لاحقة.

 

يبدو أنّ غزو روسيا لأوكرانيا سنة 2022 لم يحفّز الناتو، وتحديداً واشنطن، على إجراء حسابات جديدة. ما يتبيّن حاليّاً أنّ قرار تجميد انضمام البلاد للحلف إلى أجلٍ غير مسمّى لا يزال طاغياً، وإنّما مع "جائزة ترضية" تمثّلت بتعهّد يقضي بسلوك البلاد مساراً مختصراً (من دون خطة العمل) لدخول النادي الأطلسيّ فور تحقّق الظروف المواتية. تعكس هذه الفكرة بشكل دقيق للغاية طريقة دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا: ما يكفي للصّمود لكن ما لا يكفي للانتصار. هذا التأرجح في منزلة بين المنزلتين هو على الأرجح الفكر السائد في واشنطن.

 

وهذا التفكير مكلف لأوكرانيا، لكن أيضاً للولايات المتحدة، ولو على صعيد غير بشريّ. سيعاني حلفاء الولايات المتحدة حول العالم في الثقة بقوّة غير واثقة هي بنفسها أو بأهدافها. وينعكس غياب الثقة الأميركيّة على أبرز ركيزة للحلف الأطلسيّ: الردع. يقول مؤيّدو ضمّ أوكرانيا إلى الحلف بسبب قدرته على الدفاع عنها في المستقبل، إنّ انهيارها عسكريّاً يعني تجرّؤ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين على مهاجمة دول البلطيق.

 

"عندما ينسحب الذئب"

إذا كان صحيحاً أنّ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا ستكون التالية بعد أوكرانيا فهذا يعني أنّ الناتو لا يملك قوة ردع حقيقيّة. يضع ذلك جوهر الحلف نفسه على المحكّ. لكنّه أيضاً يفتح نافذة التشكيك على فكرة ضمّ أوكرانيا إلى الناتو من الأساس: إذا كان البلطيق غير محميّ بدفاعات الناتو فلِمَ ضمّ أوكرانيا إلى صفوفه طالما أنّها لن تستفيد منه على أيّ حال، ومع المخاطرة برفع احتمالات التوتّر مع روسيا؟

 

كانت هذه بعض ردود أستاذ الأمن الدوليّ في جامعة برمينغهام باتريك بورتر على مؤيّدي ضمّ أوكرانيا إلى الناتو، وقد استعرضها مؤخراً في مجلّة "ذا كريتيك". وأضاء أيضاً على التباين بين كلام الغرب وأفعاله، إذ يقول الناتو مثلاً إنّ "صراع أوكرانيا هو صراعه الخاصّ"، ومع ذلك هو يرفض إرسال جنوده على الأرض للدفاع عن البلاد.

 

وكتب بورتر: "إذا لم نكن مهتمّين بأوكرانيا بما يكفي للمجيء بشكل مباشر لإنقاذها الآن، مع مهاجمة الذئب لأعضائها الحيويّة، لن نأبه بما يكفي عندما يكون الذئب قد انسحب (وبدأ) يلعق جراحه".

 

هل الحرب "وجوديّة" فعلاً؟

لا تكمن أهمّيّة تحليل بورتر فقط في إشارته إلى أنّ الغرب قد لا يضمّ أوكرانيا إلى الناتو حتى بعد انتهاء الحرب وانسحاب روسيا المحتمل من أراضيها. الأهمّيّة الأكبر ربّما هي أنّ الغرب ليس بحاجة لـ "أَطْلَسَة" أوكرانيا كي يدافع عنها. بالفعل، لو كان النزاع وجوديّاً بالنسبة إليه، لذهب إلى أوكرانيا من دون الحاجة إلى المادّة الخامسة. بالتالي، يبدو التحجّج بأنّ كييف ليست عضواً في الناتو لإرسال جنود أطلسيّين إليها أشبه بوضع العربة أمام الحصان.

 

من المفترض أن تعلو "وجوديّة" النزاع في أوكرانيا – إذا كانت كذلك فعلاً بالنسبة إلى الغرب – على اعتبارات إجرائيّة أخرى كوضعيّة كييف القانونيّة. وإلّا فسيكون بإمكان الغرب أن يخفّض سقف توصيفاته لتتناسب مع أفعاله، إن لم يكن يرغب بتسريع وتعزيز مساعداته العسكريّة لها، أو الذهاب إلى حدّ سحب قضيّة انضمام كييف إلى الناتو من التداول.

 

سيغادرون كما أتوا

لهذه الأسباب وسواها، بدلاً من أن تكون ذكرى التأسيس الخامسة والسبعين للحلف مترافقة مع إعلانات رسميّة أشدّ جرأة بشأن أوكرانيا، من المرجّح أن تنتج قمّة واشنطن الالتباسات نفسها، وإن تكن هذه المرّة محاطة بأجواء أكثر احتفاليّة تناسب رمزيّة الرقم.

 

بحسب تعبير السفير الأميركيّ الأسبق إلى الناتو كورت فولكر في "مركز تحليل السياسات الأوروبية"، "سيغادر الحلفاء المدينة (واشنطن) كما أتوا، قلقين للغاية من حرب روسيا في أوكرانيا، قلقين للغاية من مستقبل القيادة الأميركيّة، ومن دون خطّة لما يجب فعله تالياً".

 

عند التدقيق في الموضوع، ليس هذا غريباً تماماً عن سلوك واشنطن خصوصاً حين تكون بقيادة ديموقراطيّة: هي تترك الأحداث تقودها بدلاً من أن تقود الأحداث بنفسها. وهذه الصورة معاكسة تماماً لما كانت عليه أميركا حين قرّرت تأسيس الناتو.

 

باختصار، وعلى الرغم من أهمّيّة ذلك، لا يكفي أن تزداد أعداد المنضمّين إلى الناتو كي تكون الولايات المتحدة راضية عن نفسها. لا يعني توسّع أعضاء النادي الأطلسيّ الشيء الكثير حين تكون واشنطن في موقع ردّ الفعل بدلاً من الفعل؛ أكان في أوروبا أم خارجها.

 

اقرأ في النهار Premium