النهار

هل يقدّم بايدن "هديّة وداعيّة" للنّاتو؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
"يا لها من هديّة وداع".
هل يقدّم بايدن "هديّة وداعيّة" للنّاتو؟
الرئيس الأميركي جو بايدن يلقي كلمة في قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن (أ ب)
A+   A-

سال حبرٌ كثير على قضيّة صعود أقصى اليمين واليسار بعد الانتخابات الأخيرة في أوروبا. الأكيد أنْ لا خطر على الاتّحاد الأوروبّيّ في المستقبل القريب. لا "فريكست" أو "بوليكست" أو "إيطالكست". ما من حزب يمينيّ متطرّف، أو محسوب على المتطرّفين، يرفع برنامج خروج بلاده من الاتّحاد الأوروبّيّ. السبب؟ على الأقلّ بحسب الكاتب في "فايننشال تايمز" جنان غانيش، وثمّة الكثير ممّا يدعم تحليله، "بريكست" نفسه.

 

لقد صعّبت بروكسل مهمّة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّيّ إلى درجة أن لا أحد يجرؤ حاليّاً على التفكير جدّيّاً بتكرار التجربة. "يقف بريكست كألطف خدمة للمشروع الأوروبّيّ... يا لها من هديّة وداع"، كتب غانيش الأربعاء.

 

"سخاء كبير"

بين 9 و 11 تمّوز (يوليو)، احتفل حلف شمال الأطلسيّ بعيد ميلاده الخامس والسبعين. بالرغم من أنّ هذه السمة غير كافية وحدها لتحديد نجاح أيّ حلف، يبقى أنّ "توسّع" الناتو، أكان عبر العضويّة في أوروبا أو عبر الشراكات في منطقة آسيا-الهادئ، علامة بارزة في مسيرته.

 

ينسب الرئيس الأميركيّ الفضل لنفسه. في مقابلة إعلاميّة، قال بايدن الأسبوع الماضي: "أنا الرجل الذي جمع الناتو، المستقبل. لا أحد اعتقد أنّه كان بإمكاني توسيعه. أنا الرجل الذي عرقل بوتين. لا أحد ظنّ (أنّ ذلك) قد يحصل".

 

تتعدّد أسباب نجاح الحلف. يشترك المشروع الأطلسيّ مع المشروع الأوروبّيّ في الحصول على هدايا تحفيزيّة؛ واحدة، من "حليف" مفترض لم يكن بالإمكان الوثوق به، الرئيس السابق دونالد ترامب، والثانية من "عدوّ" اسمه روسيا. لولا الغزو الروسيّ لأوكرانيا لما تخلّت السويد وفنلندا على الأرجح عن عقود من الحياد. ولولا تهديدات ترامب الخطابيّة، لما "تعمّق" الحلف أكثر مع زيادة عدد الدول الملتزمة بنسبة الإنفاق الدفاعيّ البالغة 2 في المئة من ناتجها القوميّ.

 

يردّ مقرّبون من بايدن بأنّه في بداية ولايته، كانت هناك فقط 9 دول تلتزم بعتبة الـ 2 في المئة، وقد أصبح عددها الآن 23. في جميع الأحوال، يصعب إنكار مساهمة ترامب في هذا الاندفاع، خصوصاً أنّ التعهّدات تستغرق وقتاً قبل أن تسلك مسار التنفيذ. بالحديث عن نسبة 2 في المئة، اتّفق الحلف بداية على بلوغ هذه العتبة سنة 2006، لكنّه عاد وأكّد الالتزام بها بعد ضمّ روسيا القرم سنة 2014. بهذا المعيار، يبدو الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين "سخيّاً جدّاً" على المشروع الأطلسيّ.

 

مفاضلة غير حقيقيّة

بعد المناظرة الرئاسيّة الأخيرة التي بيّنت أنّ التقدّم في السنّ ترك بصمات جليّة على قدرات الرئيس الذهنيّة، اندفع الديموقراطيّون لإقناع بايدن بالتخلّي عن ترشّحه. لا يزال بايدن، من دون نسيان السيّدة الأميركيّة الأولى، رافضين لهذه الفكرة. لا أحد يعلم ما إذا كان الرئيس الأميركيّ سيواصل تجاهل النصائح لفترة طويلة، لكنّ الأكيد أنّ الضغط الديموقراطيّ يتزايد. مجدّداً، لا ينحصر الهلع في واشنطن، لكنّه يمتدّ ليصل إلى بروكسل أيضاً، وبالقوّة نفسها.

 

يقول الرئيس التنفيذيّ لـ "مجموعة روثكوبف" الإعلاميّة ديفيد روثكوبف إنّه استنتج من لقائه بعدد من المسؤولين الأطلسيّين في القمّة الأخيرة، كيف أنّ همّهم الأوّل ليس ما إذا كان تقدّم بايدن في السنّ سيمنعه من إطلاق أحكام صحيحة بشأن سياسته الخارجيّة، بل ما إذا كان سيمنعه من الفوز على ترامب. ولفت في مقال عبر "دايلي بيست" إلى أنّ السفير الأميركيّ الأسبق إلى الناتو إيفو دالدر أخبره أنّ الأطلسيّين سيختارون بايدن "على كرسيّ متحرّك عوضاً عن احتمال رئاسة أخرى لترامب".

 

ليست مقارنة لافتة للنظر على وجه التحديد، إن تذكّر المرء كيف قاد الرئيس الأميركيّ الأسبق فرانكلين روزفلت جهود الحرب العالميّة الثانية على كرسيّ متحرّك (وإن حاول إخفاء ذلك طوال الوقت). في المحصّلة، من الواضح أنّ تفضيل الأوروبّيّين محسوم. النبأ السيّئ، على ما في كلمة "نبأ" من مبالغة، هو أنّ تفضيل الأطلسيّين قد لا يتوافق بالضرورة مع تفضيل الناخبين الأميركيّين. بدأت الاستطلاعات نفسها تؤكّد هذه المخاوف إلى حدّ أكبر ممّا كان عليه الأمر قبل المناظرة. والرئيس الضعيف قد لا يخسر الانتخابات وحده بل يمكنه أن يُغرق حزبه أيضاً في الانتخابات التشريعيّة. بالتالي، قد تتكرّر مجدّداً "دراما" عرقلة المساعدات إلى أوكرانيا سنة 2025 أو بعدها، لكن هذه المرّة مع روسيا أكثر تجرؤاً ربّما.

 

"فَلْينقِذ نفسَه قبل إنقاذها"

كتب ستيفن كولينسون في شبكة "سي أن أن" أنّه يتوجّب على بايدن أن ينقذ نفسه في قمّة الناتو قبل إنقاذ أوكرانيا. ليس الجميع مقتنعاً بأنّ القمّة قادرة على إنقاذ الرئيس حتى ولو كان أداؤه قويّاً فيها. نقطة ضعفه الأكبر هي الإطلالات غير المعدّة سلفاً. لا يستطيع فريق بايدن الشعور بالهدوء فقط لأنّ الأخير كان صافي الذهن في القمّة، بينما يمكنه أن يواجه مزيداً من اللحظات المحرجة في مناسبات مستقبليّة قريبة.

 

لذلك، وبدلاً من استغلال قمّة "الناتو" لإنقاذ نفسه، دعا الكاتب في شبكة "بلومبرغ" أندرياس كلوث الرئيس الأميركيّ إلى "تحمّل المسؤوليّة" و"التنحّي" عن الترشّح، وذلك لمصلحة الحلف نفسه. فهو لا يعرب عن خشيته من احتمال ألّا يتمكّن بايدن من تخطّي منافسه وحسب، بل أيضاً من احتمال ألّا يتمكّن من ممارسة مهامّه المستقبليّة كما ينبغي.

 

في "بريكست"، كما في غزو أوكرانيا، تلقّى المشروعان الأوروبّيّ والأطلسيّ هدايا غير مباشرة كما غير مقصودة. بالتالي، قد يكون قبول بايدن نصائح مسؤولي الحزب، كما المحلّلين، بمثابة "الهديّة الوداعيّة" غير المباشرة للأوروبّيّين والأطلسيّين، إذا اتّفق الديموقراطيّون على بديل حيويّ له. فالرهان على قمّة "الناتو" سيتبيّن أنّه خاسر إذا عاد بايدن ليواجه ليلة صعبة في المناظرة الرئاسيّة الثانية أوائل أيلول (سبتمبر) المقبل. حينها، ستصبح فرص استبداله ضئيلة للغاية... ومعها ربّما فرص نجاة الناتو.

 

اقرأ في النهار Premium