أكدت محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المرشح الجمهوري المفترض للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر)، أن الخطاب السياسي الذي ازداد حدة في السنوات الأخيرة، يعمق الانقسام والاستقطاب لدى الأميركيين، ويجعل العنف وسيلة مبررة ضد الخصم.
لم تأتِ محاولة استهداف ترامب وهو يتحدث أمام تجمع انتخابي للحزب الجمهوري في مدينة بوتلر في ولاية بنسلفانيا السبت من فراغ، بل هي وليدة أجواء الشحن ولغة الشيطنة التي يستخدمها مسؤولو الحزبين ضد بعضهما بعضاً، ما يخرج التنافس من إطاره الديموقراطي إلى حيز أبعد ما يكون عن السياسة بمعناها التقليدي.
والمرحلة التي تلت انتخابات 2020 وما تخللها من جدل واسع أظهرت الانقسام الواسع الذي دفع ترامب إلى عدم الاعتراف بالنتائج، وصولاً إلى اقتحام مؤيديه مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني (يناير) 2021. وبين رئيس سابق ظل يتمسك باتهام لا دليل إليه، بأن الانتخابات "سُرقت" منه، وتعرض للمساءلة في الكونغرس مرتين وبعدها لدعاوى جنائية، ورئيس في منصبه يعتبر نفسه الضمانة الأخيرة لبقاء الولايات المتحدة بلداً ديموقراطياً، ليس هناك جامع وتغيب المشتركات أكثر فأكثر.
الخطاب المتوتر تصاعد مع اقتراب انتخابات 2024. الديموقراطيون وفي مقدمتهم بايدن يقوم جوهر حملتهم على اعتبار أن ترامب سيكون ديكتاتوراً ويشبهونه بهتلر، ويحذرون من أن هذه ستكون آخر انتخابات ديموقراطية في أميركا إذا فاز الجمهوريون. وترامب يصف الديموقراطيين بأنهم يساريون وشيوعيون وفاسدون سيقودون البلاد إلى الهلاك والدمار، ويرفض منذ الآن التعهد بأنه سيعترف بنتائج الانتخابات، ما يرجح تكرار مشهد 2020 على نحوٍ سيكون أشد خطورة.
لا مبالغة في القول إن هذه أجواء تنبئ بأن الولايات المتحدة في طريقها إلى الانزلاق إلى فوضى أو حرب أهلية لا إلى انتخابات هناك استعداد من الحزبين للالتزام بقواعدها وتقاليدها. ومع اتساع عدم الثقة بين أتباع الحزبين، أظهر استطلاع لمركز "بيو"، أن ثلثي مؤيدي أي حزب من الحزبين، يعتقدون أن خصومه غير أخلاقيين وغير نزيهين وبأنهم أصحاب فكر مغلق.
وفي أواخر 2018، قبل انتخابات منتصف الولاية من عامذاك، بعث رجل بقنابل أنبوبية إلى منتقدين بارزين لترامب، بينهم الرئيس السابق باراك أوباما ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون وعضو مجلس الشيوخ وقتذاك كامالا هاريس وآخرون. وبعد عامين، تم اعتقال ستة رجال بتهمة التخطيط لخطف حاكمة ولاية ميتشيغن الديموقراطية غريتشن ويتمر لمحاكمتها بالخيانة قبيل انتخابات 2020.
ورصدت شرطة الكابيتول هيل تصاعداً في التهديدات الموجهة إلى المشرعين. وفي عام 2017، أطلق رجل مسلح النار على النائب الجمهوري ستيف سكاليز وأصابه بجروح خطيرة. وبعد هجوم على زوج رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي عام 2022، عززت الشرطة الإجراءات حول قيادات الكونغرس. وبين عامي 2021 و2023، تضاعفت التهديدات الموجهة إلى قضاة فدراليين لتبلغ 457 تهديداً.
لا تقل اللحظة الحالية في واشنطن احتداماً عن مراحل تخللها العنف في الحياة السياسية، تماماً مثلما قادت انقسامات الستينات إلى اغتيال الرئيس جون إف.كينيدي ومن بعده أخوه المرشح الديموقراطي لانتخابات 1968 روبرت كينيدي وزعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ ومن قبله اغتيال الداعية الأميركي الشهير مالكوم إكس. ساد في ذلك العقد من القرن العشرين انقسام ثقافي حاد بين الأميركيين. الأميركيون من أصل أفريقي يطالبون بحقوقهم وبالمساواة. وازداد الانقسام حدة في ظل حرب فيتنام زمن الاضطراب السياسي واستعار الحرب الباردة.
منذ اغتيال أبراهام لينكولن عام 1865 على يد جون ويلكس بوث المؤيد للكونفدرالية والمعارض لمنح السود حق التصويت، إلى محاولة اغتيال ترامب على يد توماس كروكس، مروراً باغتيال 4 رؤساء آخرين ومحاولات اغتيال لرؤساء ومرشحين للرئاسة أو مناصب أخرى، والعنف ظاهرة تؤكد نفسها في الحياة السياسية الأميركية، كلما توافرت لها البيئة المناسبة.