"نصفُ بوصة" صنع التاريخ. يصلح الجدل حول ما "صنع التاريخ" مساء السبت 13 تمّوز (يوليو) بالتوقيت الأميركيّ. إخفاق رصاصة توماس كروكس في اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب، أو حضور مصوّر "أسوشيتد برس" إيفان فوتشي إلى المكان المناسب لالتقاط صوره الشهيرة، أو استجماع ترامب قواه ومعاندة حرسه الشخصيّ ليحيّي الجماهير وهو ينزف. على الأرجح، سيساهم كلّ ذلك في تغيير وجه أميركا... وربّما العالم.
ما الذي تعنيه "أميركا جاكسونيّة"؟
تتركّز الأسئلة الأساسيّة الآن حول تأثير محاولة اغتيال ترامب على مسار الانتخابات الرئاسيّة. على افتراض أنّ ترامب سيكون الرئيس الأميركيّ المقبل مدفوعاً بتعاطف شعبيّ كما بأداء ضعيف للرئيس بايدن، يمكن لمقال الكاتب السياسيّ في "وول ستريت جورنال" والتر راسل ميد أن يكون مضيئاً على سياسته الخارجيّة المستقبليّة.
يرى ميد أنّ ترامب وتيّاره استمرار للتيّار الجاكسونيّ (نسبة إلى الرئيس الأميركيّ السابع أندرو جاكسون). بالمختصر، ينفر الجاكسونيّون من المؤسّسات الدوليّة والنخب وليسوا من المندفعين لنشر الديموقراطيّة. هم انعزاليّون إلى أن يعتدي أحدهم على الولايات المتحدة فيكون ردّهم العسكريّ بلا أيّ قيود إلى درجة أنّهم لن يأبهوا لسقوط ضحايا مدنيّين. يعتقد ميد أنّ أميركا ستصبح أكثر جاكسونيّة بعد محاولة الاغتيال.
لم يحدّد الكاتب أمثلة عن سياسة أميركا الجديدة (أو القديمة-الجديدة) بعد الاغتيال، لكن يمكن توقّع أن يصبح ترامب الرئيس أكثر تشدّداً في نهجه السياسيّ السابق. سيتظهّر ذلك من خلال تقلّب أعنف في المواقف مع الحلفاء التقليديّين الذين كان يصفهم بـ "الركّاب المجّانيّين"، بدءاً بالأوروبّيّين وصولاً إلى الآسيويّين، لإبقائهم في موقف دفاعيّ. يهدف ذلك إلى انتزاع قدرتهم على التنبّؤ بأفكاره. مع ضرورة أخذ مؤشّرات مستقبليّة أخرى بالاعتبار، يمكن أن يُفرغ هذا التقلّب القوّة الردعيّة لحلف شمال الأطلسيّ بشكل أو بآخر.
وبما أنّ لترامب علاقة مميّزة مع معظم "الرجال الأقوياء" حول العالم، يمكن توقّع أن يسعى أكثر إلى توطيدها. يعود ذلك من ناحية إلى أنّ هؤلاء الحكّام هم من مناوئي حلفاء واشنطن التقليديّين. بالإمكان التفكير هنا بدعوته الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين إلى مهاجمة دول الناتو إذا "لم تدفع" ما يتوجّب عليها من التزامات ماليّة. من ناحية ثانية، يعتقد ترامب أنّ علاقاته الشخصيّة مع "الرجال الأقوياء" هي التي ستساهم في خفض الأزمات حول العالم.
القمم مع الزعماء شي وبوتين وكيم كانت سمة واضحة لولايته الأولى ويفترض أن تكون سمة أوضح في ولايته الثانية المحتملة، لكن هذه المرّة مع تصلّب أكبر في الموقف الأميركيّ. من المرجّح أن يواصل "الرجال الأقوياء" الحصول على معاملة تفضيليّة من ترامب، لكن ليس إلى حدّ حرمانه ممّا يراه، أو ممّا يمكّنه من الترويج له باعتباره صفقة ناجحة. كمثل على ذلك، إذا كان "الرجال الراشدون" في واشنطن هم الذين منعوا ترامب من إنجاز اتّفاق مع كيم بشأن برنامجه النوويّ سنة 2018، فإنّ تجرّؤه بعد نجاته من محاولة الاغتيال هو الذي سيحول دون ذلك، إن لم يكن بإمكانه إقناع كيم بالتخلّي عن ترسانته بشكل لا عودة عنه.
في الشرق الأوسط، تسود القاعدة نفسها إلى حدّ بعيد. سيكون هناك سعيٌ مضاعف للعودة إلى محاولة توسيع اتّفاقات أبراهام، خصوصاً بعد هجوم السابع من أكتوبر. بالنسبة إلى التفاوض مع إيران حول اتّفاق نوويّ جديد، قد يهدف ترامب إلى تحقيق انتقام قاسٍ من طهران. راهنت إيران بشكل ناجح على المماطلة في العودة إلى طاولة التفاوض خلال ولايته، مستندةً إلى احتمال خسارته الانتخابات سنة 2020. وهذا ما حدث. أيّ عودة أميركيّة إلى المحادثات في ولاية ثانية لترامب قد تنطلق أوّلاً من عودة إلى "حملة ضغط" أقسى حتى من سابقتها.
ما سبب الاندفاعة الجديدة؟
تستند ملامح أميركا الجاكسونيّة تلك إلى ثقة ترامب بأنّ نجاته بسبب ميلان رأسه قليلاً إلى اليمين في اللحظة المناسبة تعود إلى هبة من "الله أو القدر" كما قال في حديث إلى "نيويورك بوست". بالتالي، سيفترض ترامب أنّ الهدف من نجاته بهذا الهامش الدقيق هو تحقيق أهدافه الرئاسيّة في الداخل والخارج. ليس أدلّ على ذلك من ثقته بنفسه التي عبّر عنها من خلال تعيين السيناتور القليل الخبرة والقليل الإضافة على المستويين الشعبيّ والمادّيّ جيه دي فانس نائباً له، خلال أعمال اليوم الأوّل من المؤتمر الوطنيّ للحزب الجمهوريّ.
للمفارقة، كان أندرو جاكسون أوّل رئيس أميركيّ يتعرّض لمحاولة اغتيال سنة 1835. وجاكسون نفسه نجا بأعجوبة حين حاول مضطرب عقليّاً يدعى ريتشارد لورنس قتله بمسدّسين، غير أنّهما فشلا على التوالي في إطلاق النار. كان لورنس يعتقد أنّ "الملك جاكسون" – تسمية تحمل طابعاً سلبيّاً من معارضيه الذين رأوا فيه خطراً على الديموقراطيّة – هو عثرة أمام "حقّه" بالتربّع على عرش إنكلترا.
لكنّ أميركا قد لا تعود إلى "جاكسونيّتها" فقط إذا فاز ترامب. فبايدن نفسه يمكن أن يرى في محاولة اغتيال ترامب خرقاً أمنيّاً لإدارته وخطراً على الولايات المتحدة والديموقراطيّة بشكل عامّ. بالتالي، كتعويض عن هذا الخرق أو الضعف المفترض، لن يكون مفاجئاً لو تشدّدت إدارته في بعض الشؤون الخارجيّة إذا فاز الديموقراطيّون بولاية ثانية. إنّما سيأتي التشدّد دوماً من ضمن العلاقات المؤسّسيّة والرسميّة مع الحلفاء التقليديّين.
كلامُ أحد الديبلوماسيّين يلخّص المشهد
يبقى هذا التحليل احتمالاً واحداً (ولو وازناً) من بين احتمالات عدّة. بعد عام وأكثر من اليوم، ربّما يخفت تأثير محاولة الاغتيال على عواطف ترامب بسبب مرور فترة زمنيّة طويلة أو حتى بسبب التقدّم في السنّ. وبالنسبة إلى المرشّح الجمهوريّ، تبدو أهدافه الأساسيّة محلّيّة أكثر منها عالميّة، الأمر الذي يمكن أن يقلّل من فرص تغيّرات كبيرة في المشهد الخارجيّ.
علاوة على ذلك، ليس التشدّد المتوقّع سلوكاً خطّيّاً على طول الطريق. يمكن أخذ سياسات جاكسون نفسه بعد محاولة الاغتيال نموذجاً. بالرغم من أنّه دعم انفصال تكساس عن المكسيك، لم يعلن الاعتراف بالجمهوريّة الجديدة إلّا في اليوم الأخير من ولايته خوفاً من بعض الارتدادات السلبيّة في الداخل. كما تراجع عن صدام مع فرنسا في اللحظات الأخيرة بعدما قَبِل بتقديم نوع من الاعتذار على الطلب من الكونغرس الاستعداد للموافقة على ردّ عسكريّ ضدّ فرنسا في حال رفضت دفع تعويضات للسفن التجاريّة الأميركيّة بسبب الحروب النابليونيّة. (قبلت فرنسا دفع التعويض). هذه وقائع حدثت بعد محاولة الاغتيال، مع التأكيد أنّه يصعب إقامة رابط سببيّ بين هذه السياسات والمحاولة: أوّلاً بسبب نقص الأدلّة، وثانياً لأنّ جاكسون كان لواءً مثخناً بالجراح بسبب حروب سابقة (بل حتى بسبب مبارزات خاصّة)، وبالتالي، كان أكثر حصانة من ترامب على المستوى النفسيّ.
في المقابل، يصعب ألّا يكون للرصاصة أيّ تأثير على ترامب. نجاة ريغان على سبيل المثال من محاولة اغتياله سنة 1981، دفعته إلى الاعتقاد بأنّ لديه مهمّة إلهيّة محدّدة: إلحاق الهزيمة بالاتّحاد السوفياتيّ. وهذا ما يعيد المراقبين إلى المربّع الأوّل؛ بصمة ترامب على أحداث العالم متوقّعة إلى حدّ كبير بسبب نجاته من محاولة الاغتيال، أقلّه في المدى المنظور.
كما قال ديبلوماسيّ من أميركا اللاتينيّة لمجلّة "بوليتيكو" في تعليق على تداعيات الحدث: "سيكون تحدّي ترامب داخليّاً أو دوليّاً أصعب بكثير".