النهار

فانس... الأبيض العادي في رحلته من العدم إلى حمل الشعلة الترامبية
واشنطن - جهاد بزي
المصدر: النهار العربي
قفز "جاي دي" إلى المقعد الخلفي من السيارة التي تقودها أمه اتقاءً لنوبة غضبها العارمة وليحمي نفسه من السرعة الجنونية للممرضة السابقة مدمنة المخدرات والتي كانت تهدده، بينما تضغط على دواسة الوقود، بأنها ستحطم السيارة وتقتلهما معاً.
فانس... الأبيض العادي في رحلته من العدم إلى حمل الشعلة الترامبية
يضفي ترشيح فانس دماً شبابياً على المواجهة الانتخابية بين بايدن وترامب. (رسم: حبيب فغالي)
A+   A-

قفز "جاي دي" إلى المقعد الخلفي من السيارة التي تقودها أمه اتقاءً لنوبة غضبها العارمة وليحمي نفسه من السرعة الجنونية للممرضة السابقة مدمنة المخدرات والتي كانت تهدده، بينما تضغط على دواسة الوقود، بأنها ستحطم السيارة وتقتلهما معاً.

كان ذلك في العام 1997، أي بينما كان جاي دي في الثالثة عشرة من العمر. لاحقاً، سيصير الحدث المزلزل للفتى مشهداً من فيلم "هيلبيلي إليجي" Hillbilly Elegy الذي أنتجته وعرضته "نتفلكس" نقلاً عن كتاب سيرة ذاتية بالعنوان نفسه للمحامي خريج جامعة يال جاي دي فانس، أو جيمس ديفيد فانس المولود عام 1984، السناتور الجمهوري عن أوهايو الذي اختاره دونالد ترامب مرشحاً لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني (نوفمبر).

الكتاب الصادر في العام 2016 دخل في خانة الكتب الأكثر مبيعاً في أميركا، كما حقق الشاب الذي كان يبلغ من العمر حينها 33 عاماً شهرة لا بأس بها، واستضيف في مقابلات تلفزيونية عديدة ليروي قصته كابن عادي لعائلة أميركية مفككة تنتمي إلى "حزام الصدأ"، أي مجموعة الولايات الصناعية التي تمتد من شمال شرقي أميركا إلى وسطها، والتي بدأت رحلة انحدارها الطويلة بدءاً من الثمانينيات، وراحت حياة عمالها تنحدر معها.

"هيلبيلي" نفسه مصطلح يراد به ازدراء البيض الأميركيين إذ ينسبهم فيه إلى منطقة جبال الأبالاش، وينمّطهم ضمن صورة الريفي الساذج الفظ الذي أقصى طموحه أن يشرب البيرة ويقود شاحنته الصغيرة ويستمع إلى موسيقى الكاونتري ويتذمر من كل شيء. ومع أن كتاب فانس يدور حول علاقته المضطربة بأمه، وعلاقته الحميمة مع جدته لأمه، وهي التي ربته فعلياً وزرعت فيه أخلاقه "الهيلبيلية" النزيهة، إلا أن فانس أراد أن يحكي قصة هذه الفئات المعدومة من البيض، من زاوية عائلية كانت شقيقته فيها تغسل الشوك والسكاكين البلاستيكية لإعادة استخدامها، وجدّته تفاوض موظفاً اجتماعياً كي يزيد لها من حصة الطعام البائسة فقط كي تشبع جوع حفيدها. قصّة الأميركي الذي يعيش في "اللامكان"، أراد فانس أن يقول منها إن الفقر المدقع والضغوط الاجتماعية الهائلة وإهمال الاتحاد الفيدرالي وتخليه عن الطبقة العاملة هي الأسباب التي دفعت هذا المجتمع إلى انتفاء الطموح والتفكك والعنف الأسريين والإدمان على المخدرات والكحول، في حلقة مفرغة من العنف إذا أسقطناها على فانس، نجدها بدأت بجدّه وجدّته وانتهت بأمّه، ليقرر لنفسه مصيراً آخر ويحقق "الحلم الأميركي" من دون أن ينسى جذوره، أو ينحاز لناسها ويدافع عنهم.

الأميركيون مولعون بالقصص. ثمة قصة أخرى نعرفها لشاب من والد كيني ولد على جزيرة في عرض المحيط الهادئ تشارك جدّاه لأمّه العزباء تربيته وانضم إلى جامعة مرموقة، وكان أول ما فعله هو كتابة قصة حياته التي كانت الأكثر مبيعاً في حينها، قبل أن يصير سناتوراً ومن ثم يقفز إلى البيت الأبيض بصفته أول رئيس أسود في تاريخ أميركا. فهل جاي دي فانس هو باراك أوباما الجمهوريين، أو بالأحرى حركة "ماغا" الترامبية؟

من المستحيل غض النظر عن الشبه بين الإثنين، في الانتماء إلى الطبقة الوسطى وما دون، وفي العصامية والصعود من أسفل السلّم والسن الصغيرة نسبياً لدخول المعترك السياسي والبروز السريع وحرق المراحل بالوصول إلى أغلى بطاقة انتخابية.

تشابها في شبابهما وطلتهما الواثقة وطاقتهما الزائدة ومهارتهما في الكتابة والتحدث والخطابة. لكنهما بالطبع ضدان نافران في كل تفصيل يتعلق بما يريدانه من أميركا على المستويات كافة، من حق المرأة بالإجهاض إلى حقوق العمال إلى الاقتصاد إلى المهاجرين وصولاً إلى التغير المناخي. أميركا مع فانس، أمام محافظ تقليدي تحول من العداء الشديد لترامب، إلى مدافع شرس عنه ومقاتل عنيد في حركته لا يتورع عن الإعلان أنه لو كان في كرسي مايك بنس في يوم السادس من كانون الثاني (يناير) لما صدّق على نتائج الانتخابات في حينها.
 
ما الذي جعله ينقلب هكذا؟ خصومه يتهمونه بأنه أفضل من يجيد ركوب الموجة العالية، ودونالد ترامب أخذ الحزب الجمهوري برمته في الموجة وعلى الأرجح أنه تحول إلى تسونامي بعد محاولة الاغتيال الفاشلة. الإعلام المحافظ، في المقابل، ركز على مزاياه وخصاله، وراح يكررها: جندي سابق، رجل عائلة وأب فخور، شاب، قيادي وطموح صاعد من العدم لينافس على الكرسي الثانية في أميركا. ما لم يقله هذا الإعلام عن فانس قالته صورته نفسها. فانس بلحيته وابتسامته وعينيه الزرقاوين، هو "جو العادي"، الشاب الأبيض الذي لا يمكن لأحد أن يسأله من أين أتى أو يشتمه طالباً منه أن يعود إلى بلاده اللعينة. هو الذي تلتقيه على مدرجات البايسبول يتناول الهوت دوغ ويشرب البيرة، أو في حفل لموسيقى الكاونتري، أو على الرصيف ينتظر إشارة المرور لتسمح له بعبور الشارع. وهو نفسه جو الشرطي والإطفائي والجار الطيب الذي "يشبهنا"، إذا كنا من البيض أبناء الطبقة الوسطى المولودين على التراب الأميركي لأجداد أتوا من أوروبا. جو العادي الذي يبجل الراية والنشيد والعلم الأميركي والقوانين لكنه مستعد لاستخدام قبضتيه (وسلاحه على الأرجح) للدفاع عن نفسه. جو العادي هذا حين يصل إلى ما وصل إليه الإثنين في افتتاح مؤتمر الحزب الجمهوري، فسيكون ممثلاً لنا، أي العمال والمزارعين البيض الذين يشعرون بالغبن والظلم وطغيان الأفكار الليبرالية والمدينية على "الطريقة الأميركية" البيضاء التي في طريقها إلى الانقراض لو استمرت "الصحوة" المتعلقة بحقوق النساء والأقليات ومسائل الجندر والميول الجنسية بالصعود، توازياً مع ما يراه المحافظون، ومناصرو "ماغا" بالأخص، اجتياح الغرباء لأميركا من بوابتها الجنوبية.

أيضاً، فإن فانس لم يتلوث نظرياً بعد بما يراه الترامبيون فساداً سياسياً مستشرياً في واشنطن، ومحاولة أزلية من حكومة الشر الفيدرالية (أو الدولة العميقة، المصطلح الشعبي جداً) للسيطرة على حياتهم وقلبها رأساً على عقب. وإذا كانوا يرون في المولود بملعقة ذهب ممثلاً عنهم وقائداً لحركتهم وثورتهم، فكيف بالخارج من "اللامكان" مثلهم؟

فانس، قبل ذلك وبعده، سيكون اليد التي ستستلم مشعل الترامبية من عرّابها الكبير. لم يكن خافياً دعم دونالد ترامب جونيور لفانس وصداقته المتينة به، ويبدو أن الأب استمع إلى ابنه في اختياره للشاب مرشحاً كنائب رئيس. إذا فاز ترامب وفانس في الانتخابات سيصير فانس الامتداد الشاب لحركة "ماغا" والمرشح البديهي لخلافة ترامب في البيت الأبيض، ومن أخلاق "الهيلبيلي" أن يرد الخدمة للصديق بمثلها. والصديق في حالتنا هذه هو دونالد جونيور بالطبع.

اقرأ في النهار Premium