بعد ظهر أحد أميركي عادي، أنهى الرئيس جو بايدن حياته السياسية وأنهى معها جدلاً مستعراً بلا هوادة داخل أروقة حزبه الديموقراطي، معلناً عزوفه عن الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وزكى نائبته كامالا هاريس.
في الأيام الأخيرة قبل إعلانه الخبر، رسم الإعلام الأميركي مشهداً قاتماً لرئيس وحيد في بيته في ديلاوير، بعيداً عن مقره الرسمي في العاصمة، يمضي أيامه معزولاً حرفياً بسبب فيروس كورونا، ومَجازاً بسبب "الأوركسترا المنظمة" التي تدعوه إلى الانسحاب، يقودها من خلف الكواليس صديقه باراك أوباما، ومعه نانسي بيلوسي وتشاك شومر، أي الثلاثة الكبار في الحزب الديموقراطي.
الحظ الذي ابتسم لترامب في المناظرة العتيدة، وبعدها حين نجا بما يشبه المعجزة من اغتيال محقق، بقي عابساً في وجه بايدن. وما بدأ مباشرة بعد المناظرة تلميحاً في أوساط الحزب الديموقراطي بأن على الرئيس أن يتخذ بنفسه قرار البقاء في السباق الرئاسي من عدمه، بدأ يتصاعد تدريجياً إلى إعلانات واضحة من شيوخ ونواب وحكام ولايات ديموقراطيين يطالبونه بالانسحاب متخوفين ليس من خسارة البيت الأبيض فحسب، بل خسارة الكونغرس أيضاً.
وبالرغم من تصاعد الضغوط عليه، لم يرشح عن بايدن وحملته أي إشارة واضحة طوال الأسبوع الفائت إلى أنه سينسحب، بل على العكس، أعلنت الحملة أنه عائد مطلع هذا الأسبوع لمتابعة نشاطه الانتخابي. وما نُقل من بيته على الشاطئ في ولايته، كان متناقضاً، يراوح بين أنه بدأ يأخذ في الاعتبار مسألة انسحابه ويسأل عن حظوظ نائبته كامالا هاريس في وجه ترامب، وبين أنه لا يزال على عناده بأنه الوحيد القادر على هزيمة سلفه العائد.
لكن لا شيء كان في صالح استمراره مرشحاً. ترامب يتقدم على بايدن على المستوى الوطني كما في كل الولايات المتأرجحة، حيث ستُخاض أم المعارك. أيضاً، فإن الداعمين الكبار لحملة بايدن الانتخابية جمدوا تبرعاتهم، وكان مرجحاً أن تكون حصيلة شهر تموز (يوليو) من التبرعات نصف ما جُمع في حزيران (يونيو)، لذا دعا بايدن بعد انسحابه إلى التبرع لحملة هاريس. هؤلاء الداعمون بحسب "واشنطن بوست" مشوا خطوة إضافية بالبحث عن المرشح الأفضل لمنصب نائب رئيس يحل مكان هاريس على البطاقة الانتخابية، بينما تكون هاريس نفسها المرشحة لمنصب الرئيس. هذا كله قبل أن يعلن بايدن الانسحاب حتى.
ثلاثة أسباب أوصلت بايدن إلى هذه النهاية: أرقام الاستطلاعات، وقطع التمويل، وتخلي "النخبة" عنه. مرارة بايدن من هذه النخبة لا تعود إلى أسابيع خلت، بل إلى ما قبل ذلك بكثير، إلى العام 2015، حين وجّه إليه أوباما، رئيسه وصديقه الشخصي، "نصيحة" بعدم الترشح للانتخابات، أي بمعنى آخر أن يتطوع للقضاء على إرثه السياسي المديد وإنهاء سيرته الذاتية في كتاب التاريخ الأميركي نائباً للرئيس. وبينما استمع الأب الحزين لفقدان ابنه حينها بداء السرطان، وجد هيلاري كلينتون، المرشحة المدللة للحزب، تُهزم أمام دونالد ترامب، ثم وجد نفسه يخرج من تقاعده لينقذ الحزب وأميركا معاً بفوزه المدوي على ترامب الذي كان بنظر الديموقراطيين لا يُقهر، كما أنه ساهم بفوز حزبه بمجلس الشيوخ في الانتخابات النصفية قبل عامين. لماذا يستمع إلى نصيحة أوباما المكررة له بالخروج من السباق، وقد أثبتت أنها لم تكن في محلها أول مرّة؟ لكنه في النهاية، استمع مجدداً.
الرئيس الذي عمل حزبه على إبعاده من السباق، ظل يدافع بشراسة عن نفسه كلما واجهه واحد من حلفائه بحقيقة أن "حظوظه بالفوز على ترامب تكاد تكون معدومة". يجيب بأن استطلاعات الرأي لا تزال في صالحه وأنه يعرف كيف ينقذ أميركا من شرور ترامب والترامبية كما أنقذها أول مرة. ما لم يجرؤ أحد على مصارحة الرئيس به سُرّب إلى الإعلام، وهو الكابوس ما عاشه الديموقراطيون منذ المناظرة "الكارثية"، صحة الرئيس الذهنية والبدنية البائن تدهورها للكاميرات كلما تحدث من دون نص مكتوب، ولمن يشاركونه المنصات ويضطرون في ختام النشاط إلى تنبيهه وأخذه بلطف من ذراعه كي ينقذوه مما يبدو لحظة تيه طويلة يجمد فيها بايدن وقد فقد حسّ الاتجاهات أو حتى علمه بمكان وجوده.
جو بايدن مكسور الخاطر، لكن لم يكن للديموقراطيين ترف جبر خاطره. الوقت بات ضيقاً بما لا يسمح بمزيد من التلميح، والخلاف خرج إلى العلن بشكل مؤذ لصورة بايدن كما لحزبه الذي يتخبط منذ المناظرة في هذه المعضلة التاريخية، بينما يمضي ترامب في خط بياني متصاعد من نجاح إلى نجاح، ومن ضمنها محاولة الاغتيال الفاشلة.
وفي وجه ديموقراطيين مأزومين بمرشح اكتشفوا فجأة أن تاريخ صلاحيته انتهت قبل بضعة أشهر فحسب على موعد الانتخابات، يتوحد الجمهوريون حزباً وإعلاماً خلف مرشحهم الذي لم يكن ينقصه إلا الضمادة على أذنه ليطلق "النسخة الجديدة" منه ("البراند") التي هو عليها، ويحوّل مؤتمر الحزب الجمهوري إلى استعراض فني هُندس على مقاسه تماماً، ودار حوله، وأضاء أحرف اسمه الخمسة عملاقة، وتناوب كل المتحدثين على كيل المديح له، وتبجيله، بينما لم يجد الحزب الجمهوري من يتذكره.
على العكس من المرتين السابقتين، يبدو أن ترامب يعرف ماذا يفعل. وحملته هذه المرة أكثر احترافاً بمراحل. أجادت تدريبه على أن لا يكون دونالد ترامب الذي تعود عليه الأميركيون في المناظرات السابقة، وأقنعته بترداد مصطلحات خالية من أي مضمون سياسي خاصة إذا أتت منه، عن "الوحدة" وعن أنه سيكون رئيس كل الأميركيين وليس نصفهم. وستعصر محاولة الاغتيال حتى آخر قطرة فيها لتسويق البطل الوطني الجديد. كل هذا بينما أطباء بايدن يحقنونه بدواء يساعد جهاز مناعته على التصدي لهجوم فيروس كورونا، ورفاق دربه يفرشون له درب عودته إلى ولايته بالورود.
رضخ جو بايدن أخيراً وانسحب. سينال حصته من مديح حزبه بصفته أنقذ بتضحيته العظيمة أميركا من مصير كان محسوماً بعودة ترامب. هذا لن يخفف من شعوره بالمرارة، لكن هذا بات للتاريخ. المعركة الانتخابية انطلقت من الصفر عصر الأحد عند الديموقراطيين، بينما دونالد ترامب بات في مراحل متقدمة من السباق، ولديهم الكثير من الجري ليحاولوا اللحاق به أو على الأقل تقصير المسافة الفاصلة بينهم وبينه.