في العام 2013، تلقت كامالا هاريس، النائبة العامة في ولاية كاليفورنيا، اتصالاً من الرئيس باراك أوباما، اعتذر خلاله عما بدر منه بحقها بينما كان يقدمها في تجمع انتخابي، حين وصفها بأنها "أجمل" مدعية عامة في أميركا.
على الرغم من موجة انتقادات عارمة طالت أوباما إذ تخطى خطاً أحمر في الصوابية السياسية واختصر مهنة مدعية عامة ونجمة صاعدة في الحزب الديموقراطي بشكلها، لم تعلّق هاريس على كلام رئيسها ومن يعرف بأنه "صديقها". بعد الاتصال الهاتفي أعلنت أنها تدعمه بشكل كامل.
كامالا هاريس ليست بالضرورة أجمل مدعية عامة، ولاحقاً سيناتور عن كاليفورنيا ثم نائبة للرئيس، لكن، وبينما المكتب البيضوي بدأ يلوح في الأفق، لا يمكن لها أن تتخطى الشكل الذي أشار إليه أوباما، والذي يسير في خط متوازٍ مع المضمون: أنها امرأة، وأنها سوداء.
حين فاز جو بايدن في الانتخابات قبل أربع سنوات، رافقته إلى البيت الأبيض سيدة محملة بوصف الأول مرّة: أول امرأة نائبة رئيس، وأول أفريقية أميركية وأول أميركية من جذور جنوب آسيوية. كامالا التي ستتم الستين في العشرين من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ابنة مهاجرين، الأب من جامايكا والأم من الهند. هي أشد اختلاطاً عرقياً من باراك أوباما الذي كان والده كينياً ووالدته أميركية بيضاء.
على هذا الخليط ستبني هاريس فخرها وصورتها، كابنة وفية للطبقة الوسطى ومدافعة شرسة عن قيم الحقوق المدنية والليبرالية الأميركية، من موقعها كخريجة حقوق انضمت منذ سنواتها الأولى إلى القطاع العام الذي يسلكه الطموحون سياسياً، وتدرجت في مناصب الادعاء العام إلى أن غادرت ولايتها إلى واشنطن العاصمة ممثلة عنها في مجلس الشيوخ.
ومع أنها انطلقت بآمال كبيرة في محاولتها نيل ترشيح حزبها في الانتخابات التمهيدية في العام 2020، إلا أنها سرعان ما أنهت الحملة لعدم توافر الدعم المالي الكافي. و"صنعت التاريخ" حين سجلت بضع أرقام قياسية بعد فوزها بمنصب نائب الرئيس.
وكما سمّاها بايدن أول مرة وهو يحضّر نفسه للدخول إلى البيت الأبيض، سمّاها ثانيةً وهو يتحضر للمغادرة. فبعد دقائق من إعلانه الرئاسي الرسمي عزوفه عن الترشح للانتخابات، زكّى بايدن، بطريقة أقل رسمية وبصفته الشخصية، مرؤوسته لتكون مرشحة للبيت الأبيض. وسرعان ما اصطف ديموقراطيون خلف بايدن في تزكيتها، وفي مقدمهم الثنائي هيلاري وبيل كلينتون. في المقابل، لم يصدر عن أوباما بعد موقف من ترشيح هاريس، لأنه على الأرجح يفضل أن يكون على مسافة واحدة من كل المرشحين إلى أن ينطلق في دعم كامل للفائز بصوت الديموقراطيين في المؤتمر المقبل في آب (أغسطس).
كامالا هاريس، من جهتها، لم تتردد للحظة في إطلاق حملتها في اللحظة التالية لخروج دعم بايدن لها، لأن وقت الديموقراطيين ضيق أصلاً ومنطق الأمور يقول إن هاريس هي الوريثة الوحيدة والأحق لبايدن. وفي أقل من 24 ساعة على بدء حملتها، نالت خمسين مليون دولار من المتبرعين، في رقم قياسي يدل على أن الداعمين الكبار راضون عنها بما يكفي للسماح بتدفق المال الذي حجب عن بايدن وحملته.
ما لم تقع مفاجآت جديدة، على الطريقة الأميركية، فإن هاريس هي التي ستواجه ترامب في المبارزة المرتقبة في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. إلى الآن، وبحسب أحدث استطلاعات الرأي، فإن أرقام هاريس قريبة إلى حد التشابه بأرقام بايدن في مقابل ترامب. لكن هذه بداية جيدة على الأقل لمن تبدأ السباق متخففة من كل ما أردى بجو بايدن. لن يضع الديموقراطيون أيديهم على قلوبهم وهم يشاهدون المناظرة المقبلة، إذا حدثت، بين هاريس وترامب. مرشحتهم تصغر خصمهم بعقدين تقريباً، متحدثة لبقة ومفوّهة وحاضرة ذهنياً ومستعدة للهجوم وتحطيم الخصم إذا أمكن متسلحة بخبرة طويلة في المحاماة والحقل العام معاً.
كما أنها ستكون النقيض التام لكل ما يمثله ترامب وحركته المحافظة. نسويتها في وجه ذكوريته. انتماؤها العرقي إلى الأقليات والمهاجرين في وجه مرشح ناصع البياض، يقود حركة تريد أن تعيد أميركا عظيمة مجدداً عبر إلغاء كل القيم التي دافعت وتدافع عنها هاريس، من حق المرأة بالإجهاض إلى محاربة الفقر إلى البيئة. وعلى العكس من بايدن الذي كانت صورته مسناً ومنهكاً وتائهاً ومتلعثماً أحد أهم أسباب تخلي حزبه عنه، فإن هاريس لديها إفراط في النشاط والتفاؤل والعصبية اللازمة لأن تكون "المقاتلة" دفاعاً عن الأميركيين في وجه الخطر العائد مجدداً لينتقم.
كامالا هاريس تحل مكان بايدن في فترة حرجة من انقسام الصوت الانتخابي الديموقراطي بشأن الحرب في غزة. وبينما لم يتردد بايدن في إبداء دعم هائل لإسرائيل في حربها، وعدم إبداء أي تعاطف صادق مع الفلسطينيين، فإن هاريس ظلت على حذر في مقاربتها لموضوع الحرب، وطالبت بوقف لإطلاق النار، وبذلت جهوداً في موضوع المساعدات. ومع إعلان ترشحها، بدأت تطفو إلى السطح مواقف ابنة زوجها اليهودية ضد الحرب وقتل المدنيين الفلسطينيين. والمسلمون والعرب الأميركيون الذين كانوا قد اتخذوا قرارهم الحاسم بعدم التصويت لبايدن عقاباً له على موقفه، يفيقون اليوم على مرشحة جديدة، وينتبهون إلى أن خصمها ليس سوى دونالد ترامب.
لن يجرؤ باراك أوباما على القول الآن: "انظروا إليها، أليست أجمل مرشحة لرئاسة أميركا؟". لكن ما يمكن أن يقوله الديموقراطيون بأريحية الآن: انظروا إليها، أليست أفضل صفحة جديدة تفتح بعد الصفحة التي طويت؟