أزمة عميقة تواجهها الولايات المتحدة، تصيب صلب المجتمع الأميركي وقيمه التي بُني عليها. فمن ارتفاع منسوب الكراهية، إلى تزايد ظواهر العنف التي تستتبع الأجواء التحريضية، بات مؤكّداً أن المشكلة الأميركية أبعد من سباق انتخابي أو منافسة سياسية بين معسكري الجمهوريين والديموقراطيين، لا بل إنها مشكلة بنيوية تتفاقم من دون أي محاولات جدّية لمعالجتها.
بدأ المراقبون بملاحظة التغيّرات التي تصيب المجتمع الأميركي منذ سنوات إلى الوراء، ولربما كان الحدث الأبرز هو الهجوم على مبنى الكابيتول في عام 2021، حين رفض مناصرو دونالد ترامب نتائج الانتخابات الرئاسية، في ممارسة تناقض بشكل كبير مبدأ الديموقراطية الذي تزعم الولايات المتحدة رعايته ونشره.
عاد العنف السياسي
إلّا أن العنف السياسي ليس ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة، لكنها متجدّدة اليوم وبوتيرة تصاعدية، وهذا ما يؤكّده الكاتب والمحلل السياسي حسن منيمنة الذي يقول لـ"النهار العربي" إن العنف السياسي "جزء لا يتجزّأ من السياسة في أميركا، لكنه تراجع فترةً من الزمان بسبب التلاحم الوطني بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 والتركيز على مواجهة الإرهاب، ثم عاد ليتصاعد ثانية".
في هذا السياق، ترصد مجلة "فورين أفيرز" الأميركية ممارسات تناقض الديموقراطية في السنوات الأخيرة، وتشير إلى زيادة ظواهر العنف، من هجوم الكابيتول مروراً بإطلاق النار على عضو الكونغرس الجمهوري ستيف سكاليز في عام 2017، ومحاولة اختطاف حاكمة ميشيغان الديموقراطية غريتشين ويتمر في عام 2020، والتهديدات ضدّ مسؤولين، وصولاً إلى محاولة اغتيال ترامب.
وبالحديث عن محاولة اغتيال ترامب في بنسلفانيا، وبغض النظر عن واقعها وما إذا كانت حقيقية أم مؤامرة مدبّرة لأسباب انتخابية، فلا شك في أنها تعكس واقع المجتمع الأميركي الذي بات يرزح تحت مشاعر الكراهية والحقد والخطابات التحريضية، وبات عدد من أعضائه يرى في السلاح والتصفية الجسدية وسيلةً لمواجهة الديموقراطية.
وبحسب "فورين أفيرز"، فإن أميركيين ينتمون إلى اليمين واليسار يؤيّدون العنف السياسي، وتضاعفت أعمال العنف ذات الميول اليسارية ثلاث مرّات بين عامي 2015 و2020، وفقاً لقاعدة بيانات الإرهاب العالمي، فيما نمت حوادث العنف من اليمين بشكل ملحوظ. وفي عام 2020، كان اليمين مسؤولاً عمّا يقرب من أربعة أضعاف عدد حوادث العنف المخطّط لها من اليسار.
لا مساحة مشتركة
ثمة عوامل عديدة تقف وراء تصاعد العنف السياسي، يضع منيمنة الحروب الثقافية الاقتصادية والاجتماعية في طليعتها. يقول: "إنها تترافق مع غياب المساحة الإعلامية المشتركة، فالخلافات الفكرية والسياسية موجودة دائماً، لكن كان ثمّة مساحة إعلامية مشتركة تُعطى للآراء المتعارضة. أما اليوم، فإن الإعلام مُسيّس ومتقوقع، وهذا يزيد من حدّة التحريض".
يؤدي الإعلام دوراً محورياً في التحريض ورفع نسب العنف. يقول منيمنة إن إعلام اليوم "يخوّن ويضلّل ويصف الخصوم بالغباء، وهذا يزيد من حدّة الانفصام الثقافي المشحون بأزمات بنيوية عميقة مرتبطة بتاريخ الولايات المتحدة ومستقبلها، وبالهوية الوطنية، بين الأميركيين المحافظين والتقدميين"، مضيفاً إن المحافظين يقولون إن الولايات المتحدة عظيمة منذ نشأتها، "لكن ثمّة شوائب لا تزال قائمة، كالتمييز بين البيض والسود، في حين يرى التقدميون أن بلادهم مأزومة منذ تاريخ وجودها، والأزمات مستمرّة".
وهذه المسائل الجوهرية مسكوت عنها، لا تُعالج، "كالمشكلة العرقية مثلاً، وتراجع نسبة البيض في المجتمع الأميركي وتحوّلهم إلى أقلية"، بحسب منيمنة.
دور الخطاب المتوتر
تؤثر السياسة في المجتمع وتلهمه، ولا شك في أن الممارسات العنفية ناتجة من صراع سياسي عنيف ودعاية سياسية قاسية. تتحدّث المجلّة الأميركية عن مسؤولية القيادات السياسية المحلية في رفع نسب العنف.
في هذا الإطار، يؤدي القادة السياسيون الأميركيون دوراً مهماً، وللهجمات السياسية والإعلامية التي يشنونها على خصومهم، كما يفعل ترامب مثلاً، أثر سيكولوجي على الجماهير، إذ تزيد منسوب التحريض ومشاعر الكراهية، ما يؤدّي إلى تزايد العنف على حساب تقبّل الرأي الآخر، والقبول بتداول السلطة بحسب نتائج الاستحقاقات الديموقراطية.
ويتوقف المراقبون عند نقطة مهمّة: بين الأميركيين نخب فكرية وسياسية طليعية، لذا غريب القبول بترشّح ترامب، وبايدن قبل انسحابه. فالأول مُلاحق قضائياً بتهم عديدة، ولديه نزعة متطرّفة عنفية، والثاني يعاني حالة صحية صعبة تجعله عاجزاً عن تولّي أي ولاية رئاسية جديدة، وهذه أزمة عميقة مرتبطة بالحزبين الجمهوري والديموقراطي اللذين يتحولان نحو الشعبوية.
أي حلول؟
يستشهد مقال "فورين أفيرز" بالتجارب الألمانية والفرنسية التي حاولت تخفيض مستويات العنف السياسي، وفي طليعة الإجراءات منع المتطرفين من الوصول إلى السلطة أو المواقع القيادية. وكمثال حي على ذلك، تعاون اليسار الفرنسي (الجبهة الشعبية) مع الوسط (معسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) في الانتخابات البرلمانية لمحاصرة اليمين المتطرّف ومنعه من الحصول على الأغلبية في الجمعية الوطنية.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إبقاء مروّجي الخطابات العنيفة بعيداً من المناصب السياسية "أولوية"، بحسب "فورين أفيرز". وبما أن الأرقام أظهرت تفوق الجمهوريين في العنف السياسي على الديموقراطيين، فإن على القيادات الجمهورية اعتماد "هوية واضحة لاعنفية وليبرالية كلاسيكية".
إن تغيير نظام الانتخابات إجراء يمكن الركون إليه أيضاً. فعلى سبيل المثال، عدد كبير من الجمهوريين لا يؤيّدون ترشيح ترامب، ويفضلّون ترشيح آخرين مثل نيكي هيلي، لكنهم ملزمون بترامب كي لا يربح منافسه الديموقراطي. إلّا أن تغيير نظام الانتخابات وإفساح المجال أمام المزيد من المرشّحين قد يعطي المتعدلين فرصة البروز في أعلى هرم السلطة على حساب المتطرّفين.
يستبعد منيمنة أن تكون أزمة الولايات المتحدة خرجت عن السيطرة، "لكن الأخطاء تحصل، ومحاولة اغتيال ترامب ليست مدبّرة، ولا تدخل ضمن الجريمة المنظّمة، إنما هي حالة فردية، وربما تزداد هذه الأحداث الفردية في المرحلة المقبلة، لكن الأجهزة الأمنية الأميركية تتابع المسألة، ولا إشارات إلى توجّه الولايات المتحدة نحو انفلات أمني واسع".