هي انطلاقة بزخم غير متوقع. انطلاقة ربما لم تحلم بها كامالا هاريس نفسها، حين استلمت شعلة السباق الرئاسي من جو بايدن. فاجأ الرئيس الأميركي مناصريه وخصومه في آن: الطرف الأول، بشكل إيجابي، بعدما اعتقد أن بايدن لن يتنحى عن مسعاه المُكلِف إلى ولاية أخرى؛ الطرف الثاني، بشكل سلبي، بعدما توقع خوض سباق سهل مع رجل ضعيف.
النبأ المفرح الآخر لهاريس هو التفاف كبار القادة الديموقراطيين حولها، الأمر الذي سيجنب حزبهم على الأرجح خوض معارك داخلية. لكن محللين يعتقدون أن هذه النقطة بالذات قد تنعكس سلباً على حظوظ هاريس.
"ما لا يَقتل..."
في مواجهة تحديات الحياة، غالباً ما يتم الاستشهاد بعبارة "ما لا يقتل يقوي"، من صياغة الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه. أن تنطبق هذه العبارة على الانتخابات الرئاسية الأميركية غير مفاجئ جداً. وليس المقصود هنا نجاة ترامب من محاولة الاغتيال، وإن يكن في هذا الأمر ما يستدعي التأمل أيضاً.
يشير جنان غانيش في صحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن الديموقراطيين خسروا السباق الانتخابي كلما حموا أنفسهم من الصراع التمهيدي. حصل ذلك مع هيلاري كلينتون سنة 2016 حين واجهت فقط بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية. وصلت كلينتون إلى تحدي ترامب وهي تواجه نقطتي ضعف: نقصاً متصوراً في الشرعية ونقصاً صحيحاً في خبرة المواجهات. الأمر نفسه حدث مع آل غور سنة 2000. لقد خسر الديموقراطيون انتخابات أمكن الفوز بها بسبب "الكثير من النظام" لا بسبب "الكثير من الصراع الداخلي" كما أوضح.
تثير الانتخابات التمهيدية أسئلة منطقية عما إذا كانت المعارك الداخلية تقوي أو تضعف المرشح. فهذه السباقات الأولية تعرّض صاحبها لشتى أنواع التهشيم التي يمكن أن يعيد مرشح الحزب المنافس استخدامها في انتخابات الخريف. يمكن مثلاً تذكر انتقادات هاريس لبايدن في السباق التمهيدي الديموقراطي سنة 2020 حين وصفته بأنه كان جزءاً من الحقبة العنصرية في الولايات المتحدة. ويمكن تذكر أيضاً كيف أن ترامب تفادى خوض السباق التمهيدي الجمهوري هذه السنة تاركاً منافسيه "يدمون" بعضهم البعض في المناظرات. لكن لكلا المثلين حدوده.
لم تستطع انتقادات هاريس القاسية وقف بايدن عن الفوز في 2020. على الضفة الجمهورية، أثبت ترامب أنه صاحب التمثيل الأوسع بين الجمهوريين بصرف النظر عما إذا كان منافسوه قد أضروا بعضهم في الانتخابات التمهيدية. ما لا يمكن تجاوزه بسهولة هو أن ترامب خاض على الأقل صراعاً داخلياً حاداً مع المنافسين الجمهوريين سنة 2016 الأمر الذي منحه خبرة في التعامل مع الضغوط. لا يمكن قول الأمر نفسه عن هاريس التي انسحبت باكراً من السباق (كانون الأول 2019) حتى قبل الانتخابات التمهيدية الأولى.
كيف ستتعامل هاريس في مواجهة ترامب خلال المناظرات وخلال حملاتها الانتخابية المتجولة، هي التي يُعرف عنها إطلاق تصريحات غريبة وغير متماسكة، هو مثار تكهنات. لكن عدم خوضها تنافساً داخلياً مع مرشحين آخرين لا يساعدها على صقل شخصيتها الانتخابية.
ثم هناك مسألة الشرعية
حين تنال شخصية أميركية عامة ترشيح أحد الحزبين الكبيرين بخيار من قادة لا قاعدة الحزب، يصبح التصور العام حول أن تلك الشخصية تفتقر إلى الشرعية تصوراً حتمياً. مجدداً، لم تحصل هاريس على صوت ديموقراطي واحد في الانتخابات التمهيدية سنة 2020. ببساطة، التف شيوخ الحزب حول ترشيحها فأصبح الأخير قائماً بحكم الأمر الواقع. بهذا المعنى، يمكن فهم كيف قارن الكاتب جوزف ستيرنبرغ في صحيفة "وول ستريت جورنال" ما فعله الديموقراطيون مع هاريس، بما فعله "حزب المحافظين" مع مرشحيه على مدى عقدين من الزمن: كلما كان المرشح المحافظ مدعوماً فقط من النخب انتهى به المطاف عند الإخفاق. لهذا السبب، يعتقد ستيرنبرغ أن النظام الانتخابي الأميركي يتفوق على الأنظمة الأوروبية في أنه يضع المرشح أمام فحص الناخبين له بعيداً من آراء كبار المسؤولين.
(أ ب)
إذا كان متوقعاً أن ينتقد الجمهوريون "تتويج" الديموقراطيين لهاريس كمرشحة رئاسية خلفاً لبايدن، فالليبراليون لم يخفوا امتعاضهم من هذه الآلية أيضاً. كتب بريت ستيفنز في صحيفة "نيويورك تايمز" أن "الديموقراطيين استحقوا تنافساً لا تتويجاً"، واصفاً هذه العملية بأنها "مناهضة للديموقراطية"، إضافة إلى أنها تتفادى اختبار نقاط ضعف هاريس.
مَثَل قديم آخر قد يطاردهم
ما يشفع لهاريس، على الأقل لغاية اليوم، هو الفوضى التي غرقت فيها حملة ترامب بعد إعلان بايدن عزوفه عن الترشح، والأهم، بعد الانتقادات والإشاعات والمشاكل التي تطارد نائبه جيه دي فانس، والتي يبدو أنها لن تتوقف في أي وقت قريب. كما لفتت شبكة "أن بي سي" في تقرير حديث لها، "أمضت حملة ترامب-فانس أسبوعها الأول وهي تلعب الدفاع".
إذا لم تستطع حملة ترامب استعادة توازنها في الأسابيع القليلة المقبلة، فقد يمر "تتويج" هاريس على خير وتكون "الثالثة ثابتة" لجهة نجاة الديموقراطيين من الانتخابات التي تفادوا فيها السباق التمهيدي الجاد. لكن في حال حدوث العكس وخسارة الديموقراطيين الانتخابات في تشرين الثاني، فقد يكون كبار قادته على موعد مع ما حاولوا تجنبه في المرحلة الماضية: صراعات داخلية، لكن هذه المرة، بمرارة أشد، وبعد أن يكون الأوان قد فات.
أشار ستيفنز إلى المثل الشعبي القديم "قرِر على عجل، اِندم في وقت الفراغ" معلقاً: "في عجلة الديموقراطيين لتتويج هاريس، هو أيضاً، للأسف (مثلٌ) ملائم". وبحسب غانيش، قد يكون بايدن أول من سيتحمل اللوم، لأنه أول من سارع إلى دعمها.