لم يكن يحب الاهتمام بالسياسة الداخلية. يقال إن شعوره حيالها كان "الضجر". المحك الفعلي بالنسبة إليه هو التعامل مع السياسة الخارجية.
"لقد اعتقدتُ دوماً أن بإمكان الدولة أن تدير نفسها داخلياً من دون رئيس. كل ما تحتاجون إليه هو حكومة كفوءة لإدارة البلاد في الداخل. تحتاجون إلى رئيس للسياسة الخارجية". هذا ما قاله الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى أحد الإعلاميين، بحسب ما كتبه بارتون سوايم في صحيفة "وول ستريت جورنال" شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
لاحظ سوايم حينها أن المرشح الأسبق إلى الانتخابات الرئاسية التمهيدية عن الحزب الجمهوري رون ديسانتيس لم يكن مرتاحاً مع الأسئلة المتعلقة بالشأن الخارجي، فطرح الكاتب مثَل نيكسون تشجيعاً لديسانتيس على تغيير نهجه. ربما يحتاج مرشح رئاسي، أو بالأحرى مرشحة رئاسية، إلى هذه النصيحة: كامالا هاريس.
تصور شائع... لكنه "مضحك"
ثمة تصور شائع عن أن هاريس ليست خبيرة في السياسة الخارجية. لهذا السبب، يُفضل مراقبون النظر إلى أفكار مستشاريها أو حتى إلى تاريخ الإدارات الديموقراطية لمعرفة كيف ستكون عليه سياسة أميركا الخارجية في ظل رئاستها المحتملة.
الكاتب والمؤلف السياسي ريتشارد مينيتر رأى في مجلة "ناشونال إنترست" أن الحديث عن عدم خبرة هاريس في السياسة الخارجية أمر "مضحك". فهي زارت 21 دولة كممثلة للرئيس والتقت بأكثر من 150 قائداً لدول حول العالم، من بينها روسيا والصين. وصقلت وجهات نظرها السياسية عبر حضور كل اجتماعات مجلس الأمن القومي الأميركي وكل الإحاطات اليومية التي يحصل عليها الرئيس. وهي عقدت اجتماعات فردية بشكل دوري مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن على مدار أعوام.
طرح وجهة النظر هذه أكثر من مراقب. الزميلة المشاركة في برنامج الولايات المتحدة والأميركيتين التابع لـ "المعهد الملكي للشؤون الدولية" هيذر هولبورت أشارت إلى أنه باستثناء جو بايدن، على المرء أن يعود إلى جورج بوش الأب سنة 1989 ليجد رئيساً يتولى منصبه مع خبرة تفوق خبرة هاريس في السياسة الخارجية.
فحين كانت عضواً في مجلس الشيوخ، خدمت في لجنتي الأمن الداخلي والاستخبارات مشرفة على واحدة من أكثر الجوانب سرية وإثارة للجدل في الأمن القومي الأميركي. وكانت تحضر الاجتماعات مستعدة لتفحص ومواجهة الشهادات. وتذكر هولبورت أيضاً سلسلة الاجتماعات الدولية التي حضرتها هاريس، وبخاصة مؤتمرات ميونيخ للأمن، كدليل إضافي على درايتها بالشؤون الخارجية.
بعض التمهل
ربما تكون اللقاءات الرسمية المتنوعة قد صقلت خبرة هاريس فعلاً. لكن الضمانات قليلة. في نهاية المطاف، الاجتماعات مع القادة الدوليين قد تكون جزءاً من "واجب" بروتوكولي، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإحاطات اليومية. مدى إعجاب هاريس بالقضايا الخارجية والنظريات السياسية وتسخير معارفها الدولية لمصلحة بناء رؤية للدور الأميركي العالمي مسألة مختلفة تماماً. وفي جميع الأحوال، هي مسألة صعبة القياس أيضاً.
من يدري، ربما كانت هاريس تشعر بـ "الضجر" من اللقاءات الخارجية كما كان شعور نيكسون المزعوم تجاه السياسة الداخلية. وحتى مع افتراض تمتع هاريس بالخبرة المطلوبة في هذا المجال، ثمة حدود للحصانة التي تؤمّنها هذه الخبرة ضد الأخطاء.
على سبيل المثال، انتُقد بوش الأب سنة 1991 لأنه لم يناصر حصول أوكرانيا على السيادة خلال مرحلة الانفتاح على الاتحاد السوفياتي كما انتُقد جزئياً لأنه لم يساهم في تخفيف حدة الكوارث في يوغوسلافيا والصومال. كذلك، لم تكن خبرة بايدن الكبيرة في السياسة الخارجية كافية ليتفادى مأزقاً تلو الآخر، بدءاً من أفغانستان مروراً بأوكرانيا وليس انتهاء بالشرق الأوسط. هذا مع العلم أن بايدن وبوش الأب يُعدّان من أكثر المرشحين الرئاسيين تمرساً في الشؤون الدولية خلال العقود القليلة الماضية، على الأقل بحسب هولبورت.
الخبراء... ثقة أم لا ثقة؟
إذا لم تكن الخبرة في السياسة الخارجية بوليصة تأمين ضد القرارات الخاطئة فهي بالحد الأدنى أحد المرتكزات الأساسية للتعامل مع عالم شديد التقلّب. يُعزى عدم التطرق إلى السياسة الخارجية في الحملات الانتخابية إما إلى تجنب تشتيت انتباه الناخبين المهتمين بالقضايا المعيشية أو إلى تفادي انقسامات داخلية حزبية لا طائل منها. لكن هاريس لا تملك ترف تجاهل التطورات العالمية.
حين استقبل بوش الأب انهيار جدار برلين ببرودة، بدا المحافظون الجمهوريون أنفسهم ممتعضين وراحوا يطلقون مقارنات مع ما كان بإمكان رونالد ريغان أن يفعله في لحظة تاريخية كهذه. اليوم، سيكون على هاريس التعامل مع مقارنات جمهورية أشد قسوة بين عالمين مختلفين جداً سادا خلال ولايتي دونالد ترامب وجو بايدن.
في وقت تنظر دول العالم، كلّ لأسبابها، إلى ما ستكون عليه سياسات هاريس الخارجية، يبدو أن لخبراء العلاقات الدولية ثقة بقدراتها على التعامل مع قضايا ساخنة. هذا ما أظهرته نتائج استطلاع رأي أجراه "معهد الأبحاث الدولية" و"مؤسسة كارنيغي في نيويورك" ونشرته مجلة "فورين بوليسي" الأربعاء.
عن ثقة 379 خبيراً أميركياً في العلاقات الدولية بكيفية تعامل بايدن وهاريس وترامب مع أزمة دولية، نال الرئيس ونائبته نسبتين متقاربتين 70 و68 نقطة من أصل مئة، بينما حل ترامب ثالثاً بـ 50 نقطة. كانت هناك اختلافات في التقييم بين الخبراء الديموقراطيين والجمهوريين بطبيعة الحال، لكن ثقة الجمهوريين بترامب كانت أقل من ثقة الديموقراطيين والمستقلين بهاريس.
هل تصدق توقعات الخبراء أم تخيب؟
لدى العالم فرصة لتكوين صورة فضفاضة عن خبرة هاريس المفترضة خلال المناظرة الرئاسية الأولى الشهر المقبل. هذا بالرغم من أن المناظرات قد تنصف من يملك بلاغة أكثر، لا رؤية أفضل، للسياسات الخارجية... أو حتى الداخلية.