بينما الطلاب يستعدون للعودة إلى جامعاتهم، استقالت نعمت شفيق. لم تهنأ رئيسة جامعة كولومبيا بمنصبها الجديد إلا لبضعة أيام. تسلمت منصبها رسمياً في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، وفي السابع منه اندلعت الحرب في قطاع غزة. أمضت شهور ولايتها كأول امرأة في الرئاسة بينما الجامعة العريقة تموج بالتظاهرات والتظاهرات المضادة والاعتصامات التي امتدت إلى أكثر من مئة وستين جامعة وكلية في الولايات المتحدة.
تنحت شفيق إذن بعد قبولها عرضاً للعمل في الحكومة البريطانية الجديدة، قد يكون أقل من المنصب المرموق الذي لم تستطع إكمال عام واحد فيه.
هي ثالث "ضحية" أكاديمية في الصراع الذي نشب مباشرة بعد الحرب داخل جامعات الـ"إيفي ليغ" مثل هارفرد وبنسلفانيا وجدت نفسها أمام أسئلة كبيرة في حرية التعبير والديموقراطية داخل جسمها الأكاديمي نفسه، وقبل ذلك في سؤال الاستقلالية في مواجهة الداعمين الكبار وما يريدون فرضه على سياساتها، وفي مواجهة تدخل السياسيين من نافذة المشرعين في الكونغرس ولجانهم التي أقامت شبه محكمة لرئيسات ثلاث جامعات في كانون الأول (ديسمبر) راحت خلالها نائبة ترامبية تقرعهن واحدة تلو الأخرى، ولما رفضن الإجابة بنعم أو لا على أسئلة مثل هل الهتاف "للانتفاضة" يعتبر معادياً للسامية، قالت لهن النائبة إنه عار عليكن ودعتهن إلى الاستقالة.
ولأنها كانت خلف المحيطات نجت شفيق في حينه من الاستجواب الذي استقالت بعده رئيستا بنسلفانيا وهارفرد. ولما جاء الدور على شفيق في نيسان (أبريل)، كان محاموها قد حضروها جيداً للتعامل مع أعضاء مثل هذه اللجان الذين يتمتعون بشراسة لا يحسد عليها الجالس أمامهم. حتى أنهم نظموا تمريناً مسبقاً خضعت فيه لجلسة استجواب ممسرح طرحوا خلاله عليها كل ما يفترض باللجنة أن تطرحه. لكن شفيق تطوعت في الكونغرس لأن تذهب بعيداً في اللطف والموافقة على كل آراء مشرعين جمهوريين صيغت على شكل أسئلة ووصلت إلى حد قول أحدهم إن على الجامعة تلقين طلابها بأن معاداة إسرائيل هي معاداة للسامية.
كذلك فإن شفيق أعلنت أنها اتخذت إجراءات تأديبية بحق أكاديميين بأسمائهم، ما اعتبره الجسم التعليمي في الجامعة خرقاً لسياسات كولومبيا باحتفاظ الجامعة لنفسها بسرية هذه التحقيقات وغيرها. أكثر من ذلك، فقد اتهمت شفيق بارتجال قراراتها خلال جلسة الاستماع لإرضاء سائليها.
لكن قرارها الذي اتخذته في اليوم نفسه كان له الوقع الأكبر على الجامعة وعلى حركة الاحتجاجات الطلابية في مختلف جامعات الولايات. فقد استدعت شفيق الشرطة لتفكيك المخيم - الاعتصام الذي أقامه الطلاب المناصرون لفلسطين داخل الحرم في نيويورك وانتهى باعتقال أكثر من مئة طالب وجعل كولومبيا تحت الضوء على مستوى البلاد، حيث راحت تتوالى اعتصامات الاحتجاج وتدخل الشرطة لاعتقال طلاب وأكاديميين حتى وصل عددهم إلى أكثر من 3600 معتقل في نحو 160 جامعة.
الحركة الطلابية التي صمدت طوال الأشهر الماضية تضم تيارات مختلفة يسارية وحقوقية وليبرالية وصولاً إلى عرب ومسلمين ويهود، كان عليها أن تواجه بشكل متواصل تهمة "اللاسامية" التي لجأت إليها مجموعات الضغط الإسرائيلية واليمين المحافظ الأميركي و"ماغا" دونالد ترامب الذي بشر في خطاب له مؤخراً أنه سيطرد كل الطلاب الذين يكرهون إسرائيل. وكان مؤتمر الحزب الجمهوري الذي أعلنه مرشحاً رئاسياً، استضاف على المنبر طالباً يهودياً من جامعة ييل قال إنه كان ديموقراطياً لكن بعد كل ما واجهه في حرم جامعته من معاداة للسامية تحول إلى ترامبي.
واليمين الجمهوري انتهز التظاهرات فرصة لاستكمال حربه على جامعات الـ "أيفي ليغ"، وبخاصة كولومبيا، التي باتت بحسبه وكراً لتصنيع كل الأفكار الشريرة اليسارية والجندرية والمعادية لإسرائيل، والتي يشكل أفكارَ طلابها أساتذة راديكاليون "متعاطفون مع الإرهاب".
يمكن اختصار مطالب الحركة الطلابية، إضافة إلى وقف النار الفوري، بمطالبة الحكومة الفيدرالية بإيقاف الدعم العسكري الإسرائيلي كما تطالب الجامعات بفك ارتباطها بممولين أو بمؤسسات معلنة الولاء لإسرائيل. هذه الحركة التي تضم فئة عمرية شابة تميل إلى الحزب الديموقراطي الذي شهد انقساماً بدوره خلال الحرب وكانت مواقف الرئيس جو بايدن الداعمة لحكومة بنيامين نتنياهو واستمرار الحرب أحد أسباب انخفاض أرقامه في استطلاعات الرأي وصولاً إلى انسحابه من الترشح. خليفته على البطاقة الانتخابية، كامالا هاريس، لم ترث منه كل الغضب الذي يحمله له معارضو الحرب على غزّة، والفئة الشابة تشكل نسبة لا يستهان بها منهم. ومنذ إعلان قرارها خوض السباق الرئاسي، ترسل هاريس إشارات يمكن وصفها بالإيجابية منها استقبالها الجاف لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بما فيه 15 ثانية أمام العدسات قبل اجتماعها به، ثم حديثها للإعلام بعد اللقاء والذي أثار امتعاض نتنياهو.
الفترة السياسية الحرجة عند الحزب الديموقراطي سيستغلها معارضو الحرب ما استطاعوا حتى موعد الانتخابات. وستنظم مسيرتان كبيرتان الإثنين والخميس في شيكاغو حيث يبدأ مؤتمر الحزب الديموقراطي أعماله ويختتمها بقبول هاريس ترشيحها للانتخابات. عشرات المنظمات ستتظاهر "من أجل فلسطين" ضد الحزب وجو بايدن المتهمين "بالتسبب بالإبادة الجماعية في غزة".
في نقاش المقلب الآخر، يبحث رؤساء الجامعات عن مخارج "أكاديمية" للتحركات والتحركات المضادة في الحرم توفر عليهم المواجهات وتعفيهم من كأس الكونغرس المر، كما تجنبهم الاتهام بتحويل الأكاديميا إلى "دولة بوليسية".
والنقاش يتمحور حول تعزيز سياسات الجامعات الداخلية بشأن حقوق التعبير عن الرأي بطرق قانونية، ومحاولة "تبريد" النقاش العالي بتوجيه الأساتذة والطلاب معاً إلى الحوار الأكاديمي حول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وقضايا اللاسامية والإسلاموفوبيا ومعاداة العرب.
الجامعات تحاول أيضاً تغيير بعض القرارات اللوجستية مثل جامعة كولومبيا التي أعلنت السماح بالدخول إلى حرمها فقط لمن يحملون بطاقتها الجامعية، فارضة على ضيوف الطلاب ملء استمارة قبل السماح بهم بالدخول.
التحرك في شيكاغو يبدو بمثابة فاتحة موسم العودة إلى الجامعات في أميركا، والبداية الرسمية للعد العكسي للثلاثاء الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، في 5 منه، موعد الانتخابات، والحرب الإسرائيلية المستمرة أحد أكبر عناوينها. العائدون إلى الجامعات سيكونون في قلب الموسم السياسي المستعر، ومن المفترض بمعارضي الحرب أن يستفيدوا من هذا الزخم في رفع أصواتهم مجدداً، وإقامة اعتصامات ثابتة، في وقت مبكر من العام الدراسي - الانتخابي الجديد.