"أميركا… أعطيتك أفضل ما عندي". في اللحظات الأخيرة من خطابه الذي استمر لأكثر من خمسين دقيقة، كان الرئيس الأميركي جو بايدن يلقي من شيكاغو تحية الوداع لحياته السياسية، وسط هتاف هستيري لعشرات الآلاف من المحتشدين في "يونايتد سنتر" ليل الإثنين في افتتاح أعمال المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي.
هذا اليوم الأول من المؤتمر افتتحته كامالا هاريس في ظهور على المنصة من خارج تقاليد هذه المؤتمرات الحزبية التي تترك مرشحها يلقي كلمته في اليوم الأخير. لكن هاريس كانت تريد التعبير مجدداً عن امتنانها العميق لمن أوصلها إلى المقعد الثاني في هرم السلطة الأميركية قبل أربع سنوات، وعاد ليسميها قبل أسابيع مرشحته للمقعد الذي أُجبر على التخلي عن محاولة الاحتفاظ به لأربع سنوات إضافية. وفي كلمتها المختصرة وغير الرسمية، بدت كأنها تحدد جدول أعمال اليوم الأول من المؤتمر المستمر حتى مساء الخميس بكلمتين: "شكراً جو!".
بدورهم، ودّع الديموقراطيون رئيسهم وأحد أعتق رفاقهم المنخرطين في السياسة منذ نصف قرن، بأفضل ما عندهم. بعد كلمتين عاطفيتين من زوجته جيل، ثم ابنته آشلي، صعد بايدن إلى المنصة دامعاً لتنفجر عاصفة من التصفيق والهتاف بلا انقطاع لنحو خمس دقائق وسط بحر من اللافتات: "نحن نحب جو".
جو المكرّم الآن، هو بالطبع غير جو المصاب بكوفيد والمنعزل سياسياً قبل أسابيع وقد تكاتف الجميع لدفعه خارج الحلبة الرئاسية. كلمته التي استمرت زهاء خمسين دقيقة، كانت في نصفها الأول خطاب رئيس حالي يسعى لولاية ثانية. عدد كل انجازاته خلال الأعوام الفائتة وهاجم خصمه اللدود دونالد ترامب. لكن كان عليه أن يجترع كأس السياسة المر في القسم الثاني من خطابه، حين تراجع إلى الصف الثاني الذي أمضى معظم حياته فيه، والذي يقتصر على دعم "جوهرة تاج" الحزب ومدحه، واسمه هذه المرة كامالا هاريس، وكان قبلاً باراك أوباما، وقبله في الثمانينات حين فشل مرتين متتاليتين (1984 و1988) في الفوز بترشيح الحزب في الانتخابات التمهيدية.
من يضحي في سبيل أميركا على حساب مصلحته الشخصية. هذا هو "الإرث السياسي" الذي يريد جو بايدن أن يخرج به من البيت الأبيض. "الإيثار" على ما يقول المصطلح عن الذين يضحون بأنفسهم من أجل الجماعة. "إيثار" لم تكفّ هاريس للحظة طوال خطابه عن التعبير عن امتنانها له، ومعها نانسي بيلوسي، التي يوجه البايدنيون أصابع الاتهام إليها بأنها كانت خلف أوركسترا المطالبة بانسحابه. بيلوسي التي أصرت على أن تقرأ شفتاها كلما توجهت الكاميرا إليها: "وي لوف جو"، أو "ثانك يو جو".
أوكاسيو كورتيز وهيلاري
بدأ اليوم الأول من مؤتمر الحزب وانتهى على وداع جو بايدن. خارجه، كان المتظاهرون المناهضون للحرب ضد غزة يملأون الشوارع المؤدية إلى الاستاد بالآلاف. في الداخل، كان اختيار المتحدثين يعكس رسائل الحزب العديدة وفي مقدمها تنوعه العرقي وتمثيله لمختلف أطياف الولايات، شمالاً وجنوباً. وكما العادة، قدّم الحزب قيادات شابة واعدة إلى جانب القيادات التقليدية. هكذا، ومن معسكر التقدميين الديموقراطيين، دعمت هاريس النجمة الصاعدة في تيار بيرني ساندرز النائبة النيويوركية ألكساندرا أوكاسيو كورتيز (تختصر بـ AOC). الثلاثينية من أصول لاتينية، الفخورة دوماً بحلمها الأميركي الذي جعل نادلة في مطعم تصل إلى واشنطن العاصمة، كانت تتوجه إلى الطبقة الوسطى وإلى الفئة الشابة في حزبها، كما أنها كانت صوت التقدميين أنفسهم، وإن لم تكن صوتاً عالياً في الموضوع الفلسطيني الذي اكتفت منه بالتأكيد أن بايدن وهاريس يفعلان ما بوسعهما لإيقاف الحرب وإعادة الرهائن الأميركيين إلى بلدهم.
نجمة أخرى مخضرمة، في المقابل، كانت هيلاري كلينتون. نالت أول امرأة مرشحة عن الحزب الديموقراطي (2016) ترحيباً هائلاً استمر لدقائق وقوطعت بالتصفيق مراراً في خطابها الذي يمكن اختصاره بأنه كان نسوياً، بدءاً من انتزاع النساء الحق بالتصويت قبل 104 أعوام، وصولاً إلى تفوقها على دونالد ترامب في عدد من اقترعوا لها، وانتهاء بالحلم الذي عجزت عن تحقيقه بنفسها: أن تكون هاريس أول امرأة رئيسة في البيت الأبيض. "المستقبل هو الآن"، قالت هيلاري باسم الأميركيات اللواتي ناضلن من أجل حقوقهن السياسية والاجتماعية، ومنها الحق بالإجهاض بالطبع، والذي "ستعيده هاريس على المستوى الوطني" في حال فوزها في الانتخابات.
عادت هيلاري مراراً إلى التماثل الذي يجمعها بهاريس، وصولاً إلى أن والدتيهما الراحلتين كانتا لتشعران بالفخر الكبير بهما لو أنهما بيننا الآن، بما معناه أنها فتحت الطريق للنساء وهاريس تكمله الآن، لتنهي بأنه يمكن كسر السقف العالي الذي تقف في الجهة الأخرى منه كامالا هاريس وهي تؤدي القسم الرئاسي.
في خطابها العاطفي الذي ألهب الديموقراطيين، سبقت كلينتون الرئيس جو بايدن في تمرير الشعلة لهاريس، من بوابة النساء هذه المرة. ومع ختام اليوم الأول من المؤتمر بعناق جو بايدن على المسرح، أزاحت هاريس عن كاهلها وحزبها، وبأفضل طريقة ممكنة، "فيل الغرفة" المتمثل في جو بايدن. الأيام المقبلة ستكون لها وحدها، ولصورتها الجديدة كقائدة للديموقراطيين في حربهم لإزاحة دونالد ترامب، كبير فيلة الحزب الجمهوري، بل فيله الوحيد الآن إلى جانب ذاك الذي يتخذه الحزب شعاراً له.