عام 1973، حسمت المحكمة العليا الأميركية نزاعاً قانونياً بين سيدة حامل، مجهولة الهوية، ومدع عام في مقاطعة في ولاية تكساس، لمصلحة حق السيدة "الدستوري"، بالإجهاض.
القرار في قضية "رو ضد وايد" لم يكن انتصاراً شخصياً للسيدة التي حملت في عام 1969 وأنجبت ابنتها في العام اللاحق لتتبناها عائلة أخرى مباشرة بعد ولادتها. القرار كان انتصاراً تاريخياً للمطالبين بحرية المرأة بجسدها، ورفع يد الحكومة، فدرالية كانت أو في الولايات، عن أخذ القرار عنها، كما أنه نزع الخوف عن المجتمع الطبي في كل الولايات التي كانت لكل منها قوانين وتقييدات في ما يتعلق بالإجهاض، من مدة الحمل، إلى الأسباب الموجبة لهذا الإجراء مثل الخطر على حياة الأم، أو تعرضها للاغتصاب أو غيرهما.
"رو ضد وايد" أنهى النزاع نظرياً حول دستورية الحق بالإجهاض واعتبره "حرية شخصية". لكنه لم ينه الصراع حول هذه المسألة الفائقة الحساسية والجوهرية في المجتمع الأميركي، والتي تتداخل فيها قضايا تبدأ بحرية الفرد وتتسع إلى حقوق المرأة والمعتقدات الدينية، والتوجهات السياسية، محافظة أو ليبرالية، وصولاً إلى الفئات العمرية للنساء وأعراقهن والطبقة التي ينتمين إليها.
سيصمد القرار 49 سنة، قبل أن تسقطه المحكمة العليا نفسها، وقد باتت غالبيتها من المحافظين عام 2022 بستة أصوات مقابل ثلاثة، في القرار "دوبس ضد منظمة جاكسون لصحة المرأة". ثلاث قضاة ممن صوتوا مع القرار عينهم الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لطالما تفاخر بأنه كان السبب في قلب دفة المحكمة لمصلحة التيار المحافظ في البلاد.
القرار بأن حرية المرأة بجسدها لا يضمنه الدستور، أعاد تقرير مصير هذه الحرية إلى المشرعين في الولايات. وسرعان ما انقسمت الخريطة بين ولايات لا تضع قيوداً على الإجهاض، وأخرى تمنع الإجهاض منعاً كلياً (14) أو تضع تقييدات (7). معظم هذه الولايات جنوبية وكلها محسوبة على الجمهوريين بطبيعة الحال.
وإذا كانت الولايات التي منعت الإجهاض كلياً قد حسمت أمرها بالعودة إلى القرن التاسع عشر دفعة واحدة، فإن الولايات المترددة تضع شروطاً لقانونية الإجراء منها مدة الحمل القصوى للسماح به، التي تبدأ بـ18 أسبوعاً وتنتهي بستة أسابيع، وهذه المدة الأخيرة، للمفارقة، قد تنقضي قبل أن تعلم امرأة بأنها حامل أصلاً، بخاصة إذا كان الحمل غير متعمد، وهو حالة الغالبية ممن يسعين إلى الإجهاض.
وإذا كانت هذه الولايات تلحظ السماح بالإجهاض في حال الخطر على حياة الحامل، أو الاغتصاب، أو غيرهما، فإنها لن تستطيع "فهم" أسباب النساء الأخرى للجوء إلى الإجهاض، الاجتماعية منها أو الاقتصادية. الغالبية العظمى منهن عازبات، 70 في المئة في عمر أقل من 20 وصولاً إلى 29 سنة، أي في السن الحرجة للتأسيس للمستقبل، من الأكاديميا إلى سوق العمل. ونحو 72 في المئة منهن ذوات مدخول متدنٍ.
المنع التام، أو الجزئي، للإجهاض في هذه الولايات يستتبعه حرمان من تغطية التأمين الصحي للعملية (أو ثمن الدواء)، ودفع ساعات الإجازة المرضية، إضافة إلى عجز الكثير منهن عن تحمل تكاليف السفر للإجهاض في ولايات أخرى، ليكون البديل في هذه الحالة هو اللجوء إلى أساليب غير آمنة للإجهاض بمجهود شخصي.
في خط موازٍ، ثمة خطر حقيقي على حوامل قد يفقدن حياتهن أو أرحامهن نتيجة تعقيدات في الحمل ولا تستطيع غرف الطوارئ في المستشفيات إجراء عمليات إجهاض مصيرية لهن، إما لأنهن قطعن الفترة المسموحة في الولاية أو نتيجة المنع الكلي.
أيضاً، وفي توزيع غير متناسب مع الأكثرية العددية في أميركا، فإن معظم النساء اللواتي يحتجن إلى الإجهاض هن من الأقليتين السوداء واللاتينية، ما يجعل هاتين الفئتين الأكثر تضرراً من كل تبعات قوانين المنع والتقييد.
إلى هنا، والسياسة لم تطل بوجهها المريب بعد على هذا المشهد الاجتماعي للعائلة الأميركية في بلد ستجري فيه واحدة من كل أربع نساء، بحسب الإحصاءات، إجهاضاً واحداً على الأقل في حياتها. أي أن نقاش الإجهاض ينسحب، بشكل أو بآخر، على الأسرة الأميركية بغض النظر عن عرقها ودخلها ودرجة تدينها وميلها يساراً ويميناً. وبما أن أميركا معنية نظرياًَ وعملياً بهذه القضية، فإنها ستتصدر المشهد السياسي في التطبيق المباشر له، أي الانتخابات الرئاسية.
دونالد ترامب، والجمهوريون وراءه، وجدوا أنفسهم في موقف دفاعي، ليس الآن، بل من عام 2022، إذ ارتبط قرار المحكمة العليا بترامب، وكان من أهم أسباب عجز الجمهوريين عن "الاكتساح" المتوقع للانتخابات النصفية تلك السنة والتي خرجوا منها بنتائج مخيبة بشدة لآمالهم.
وترامب، في هذه الأيام الفاصلة بينه وبين الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، يبدو مربكاً في التعامل مع الملف برمّته، بخاصة أن منافسته كامالا هاريس، وضعت الحق بالإجهاض في أعلى سلّم أولوياتها، بصفته أقوى أسلحتها في مقابل ضعف حجتها في الاقتصاد والهجرة. الرئيس السابق الذي يتهمه الديموقراطيون بأنه سيوقع منعاً وطنياً شاملاً للإجهاض إذا فاز، يحاول، من دون نجاح، حمل العصا من النصف. لا يريد إغضاب قاعدته المحافظة، لكن عينه على المقترعين الذين لم يحسموا أمرهم في الولايات المتأرجحة، ومن هؤلاء "نساء الضواحي" التي تقول الاستطلاعات إنهن يملن للاقتراع للمرشح المناصر لحق المرأة بالإجهاض. وقد اضطر قبل أيام للتوضيح أنه مع حق الولايات، بعد "غضب" المحافظين عليه نتيجة انتقاده قرار ولايته فلوريدا تحديد فترة السماح بالإجهاض بستة أسابيع في حد أقصى. ولا تساعده المواقف الحادة المناهضة للإجهاض التي ينبشها الديموقراطيون من أرشيف نائبه جاي دي فانس، وأشهرها كلامه عن "سيدات القطط البائسات" اللواتي لم يصرن أمهات.
وهو إرباك يتعاظم بينما الأرقام تشير إلى تقدم هاريس عليه على المستوى الوطني بثلاث نقاط في معدل استطلاعات الرأي (بحسب نيويورك تايمز)، كما في اثنتين من خمس ولايات متأرجحة. وهو على موعد مع "المدعية العامة" في المناظرة المشهودة في العاشر من أيلول (سبتمبر) المقبل، وعلى الأرجح أنها لن توفر جهداً ولا خبرة سابقة لها في استنطاقه حول الإجهاض، والحفاظ على الهدوء ليس من أهم مهارات الرئيس السابق حين ينفد صبره، هو الذي في العادة أشد ما يكون متهوراً لحظة النفاد السريع للصبر.