قبل 27 حزيران (يونيو)، كانت الحكمة التقليدية تقول إن المناظرات الرئاسية نادراً ما تُحدث أي فرق. نظرياً، بحلول موعد المناظرات، يكون محبو السياسة قد حسموا رأيهم. أما من لا يولون السياسة أهمية كبيرة فهم عادة ممن لا يتابعون المناظرات. أمام هذه المفارقة، لم يُلقِ المراقبون الكثير من الثقل الانتخابي على تلك المواجهات المتلفزة.
وتظهر مجلة "إيكونوميست" أنه منذ سنة 1960، تاريخ أول مناظرة منقولة على الهواء، وحتى 2020، كانت حظوظ المتنافسين هي نفسها تقريباً قبل وبعد المناظرة بنحو أسبوع. لكن في 27 حزيران 2024، كان الأميركيون مع موعد مختلف.
حينها، قدّم الرئيس الأميركي جو بايدن أداء سيئاً جداً في المناظرة أمام منافسه دونالد ترامب، مما أثار موجة هلع ديموقراطية طالبته بالاستقالة. بعد رفض مطوّل ومتصلّب، قبِل الرئيس أخيراً تلبية مطالب الديموقراطيين وإخلاء الساحة أمام نائبته كامالا هاريس. الآن، ستواجه هاريس تحديها الأول عند الساعة التاسعة من مساء الثلاثاء بالتوقيت الشرقي مع المناظرة التي ستجمعها بترامب والتي ستديرها شبكة "إي بي سي". الآن، وعلى عكس ما قيل في السابق، يبدو المحللون مقتنعين بأهمية الحدث.
من سيستفيد من قواعد المناظرة؟
كما يقول جاستين ويب من صحيفة "صنداي تايمز"، إن قواعد إطفاء ميكروفون الخصم حين يكون الكلام لأحد المتنافسين، والتي أصر عليها فريق بايدن في البداية، باتت تصب في مصلحة ترامب. قال فريق هاريس الذي عمل جاهداً لكن بدون نجاح على تغيير هذه القواعد، إن الأخيرة لا تخدم "المدعية العامة السابقة" وستعمل على "حماية دونالد ترامب من مبادلات (كلامية) مباشرة مع نائبة الرئيس".
مع ذلك، ينبّه ويب من أن بعض الناخبين لا يحبون أن تكون المرأة في موقع قوة تجاه الرجل، الأمر الذي قد يفقد هاريس بعض الأصوات لو قاطعت ترامب بشكل متكرر. ومن جملة القواعد أيضاً أن المتنافسين لن يستطيعا توجيه أسئلة إلى بعضهما البعض ولا حتى تدوين ملاحظات، علماً أن هاريس ترتاح إلى ذلك بحسب تجربتها القصيرة في الانتخابات التمهيدية سنة 2020.
رهان
قد تدخل هاريس المناظرة وهي تراهن على انفجار ترامب. نقطة ضعف هذا الرهان أنه لم يتحقق في مناظرة حزيران حين بدا المرشح الجمهوري متمالكاً أعصابه. لكن حتى لو عاد ترامب إلى الصراخ في مناظرة الثلاثاء فقد لا يكون لديه الكثير ليخسره. في نهاية المطاف، ترامب هو ترامب، ونوبات الغضب متوقعة منه. ينقل هذا الأمر عبء إيجاد توازن بين ضبط النفس وعدم خسارة النقاط إلى هاريس.
كذلك، سيتحتم عليها إيجاد توازن بين التعامل مع هجمات ترامب ضدها وتقديم نفسها إلى الجمهور كما تقول الإعلامية في "أم أس أن بي سي" جين ساكي التي شغلت أيضاً منصب الناطقة باسم البيت الأبيض بين 2021 و2022. بهذا المعنى، إن هاريس قد تخسر من ليلة سيئة أكثر مما سيخسره ترامب من ليلة بالمستوى نفسه من السوء.
"سَلَطة الكلمات"
ثم هناك قدرات هاريس البلاغية. يعتقد البعض أن هاريس تملك مقومات الخطابة، لكن آخرين يشككون بذلك. سنة 2020، وحين ناظرت نائب الرئيس آنذاك مايك بنس، أشارت استطلاعاتٌ إلى أن هاريس فازت بالمناظرة. لكن المشككين بإمكانات هاريس الخطابية يطلقون على تعابيرها "سَلَطة الكلمات" لأن أفكارها تبدو غير متجانسة بالنسبة إليهم، إلى درجة أنها تخلط كلمات في جملة واحدة بدون أن تنتج أي فكرة واضحة.
وتجنبت هاريس لفترة طويلة إجراء مقابلات غير معدة سلفاً مع الإعلام، إلى أن قابلتها شبكة "سي أن أن"، وقد كانت مقابلة لم تغيّر رأي المشككين بها، كما كانت الحال مع الكاتب في "واشنطن بوست" مارك ثيسن. لكنه مع ذلك يذكّر كيف أن ترامب يشكو من مستشاريه حين يطلبون منه التركيز على السياسة بدلاً من شخصنة الأمور، مما يعني أنه قادر على إهدار بعض نقاط قوته بشكل مجاني.
ماذا عن السياسات؟
على مستوى الجوهر، قد يكون ترامب وهاريس شبه متعادلين، تماماً كما تظهره استطلاعات الرأي الأخيرة. يشعر ترامب براحة في مهاجمة القضايا الاجتماعية التي تتبناها هاريس وهو يصفها بـ "الراديكالية" و"الماركسية". كما سيحاول ربط مسيرتها بسياسات الإدارة ككل تجاه الحدود والهجرة والأمن والتضخم. لكن من جهة أخرى، يصبح ترامب فجأة في موقف دفاعي حين يتم تسليط الضوء على قضية الإجهاض.
كانت مواقف الرئيس السابق متقلبة بشأن هذه القضية لأنه يعرف أن أي ثبات في الموقف قد يكلفه إما خسارة جزء صغير من قاعدته المحافظة، وإما جزء من أصوات النساء على المستوى الوطني. من ناحية أخرى، بإمكان ترامب الجدال أيضاً لمصلحة أن العالم كان أكثر هدوءاً في ولايته مما هو عليه الآن في ظل ولاية بايدن/هاريس.
سؤال أخير
ماذا لو ارتكب أحد المتنافسين خطأ كبيراً في المناظرة كلفه خسارة بعض الناخبين المحتملين؟ بشكل حسابي، سيبقى هناك أقل من 55 يوماً للعمل على استعادة الثقة المفقودة. بالنظر إلى أن مسار انتخابات 2024 أظهر إمكانية أن تنقلب الأجواء رأساً على عقب في غضون أسبوعين إلى ثلاثة، فقد تكون هذه الفترة كافية لإصلاح الضرر، مع قليل من الحظ.
يمكن ملاحظة كيف تغيرت الظروف لمصلحة ترامب منذ المناظرة الشهيرة وحتى الأيام القليلة التي أعقبت نجاته من محاولة الاغتيال، قبل أن تعود وترتد لمصلحة حملة هاريس منذ تنحي بايدن عن مسعاه الرئاسي الثاني وصولاً إلى مؤتمر الديموقراطيين في شيكاغو.
اليوم، يبدو أن هاريس بدأت تفقد زخمها إذ أظهر استطلاع رأي وطني لصحيفة "نيويورك تايمز" بالتعاون مع كلية سيينا الأحد أن ترامب يتقدم بنقطة واحدة على الصعيد الوطني. بالتالي، يمكن قول إن المناظرة المقبلة ربما تكون من بين الأهم في تاريخ المناظرات الرئاسية حتى ولو لم تكن بالضرورة كافية لحسم السباق باتجاه أو بآخر.