لا توجد طريقة علمية لمعرفة من الذي "فاز" في مناظرة الثلاثاء بين المتنافسين على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية كامالا هاريس ودونالد ترامب. لا أهداف حقيقية تسجل في هذا النوع من المباريات كما لا يمكن إعلان فوز خصم على آخر بالنقاط كما في الملاكمة. وكما انقسم المحللون في الإعلام الأميركي في تحليل المناظرة، كلّ على هواه السياسي، كان كلّ من المعسكرين يعلن أنه المنتصر.
سؤال الفوز نفسه لا معنى له ما لم يُترجم في الأرقام التي ستحملها استطلاعات الرأي في الأيام المقبلة كما في حركة الخط البياني لحجم التبرعات للحملتين. غير ذلك، لا تعدو المناظرة كونها تقليداً عتيقاً يعشقه الأميركيون عشقهم لنهائي كرة القدم، السوبربول، ويقبلون على مشاهدته بحماسة الجمهور المتعطش لتمضية ساعة ونصف من الإثارة والتشويق والتسلية.
وبعكس بؤس المناظرة السابقة التي قضى فيها الرئيس جو بايدن على نفسه، ومن مدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا المتأرجحة وشديدة الأهمية في تقرير مصير الانتخابات، قدم المتبارزان على قناة abc استعراضاً مثيراً لا هامش فيه للحظة ملل، فلم يخيبا أمل عشرات الملايين ممن لم ينسوا بعد مأساة المناظرة السابقة للمرة الثانية بين ترامب وبايدن.
وفي نقل مباشر من استوديو مغلق عليهما وعلى مديري الحوار لينزي ديفيس وديفيد مور، بدأت هاريس المناظرة بكسر عرف معتمد بين ترامب وخصومه في المناظرات الرئاسية بعدم المصافحة يعود إلى ثاني مناظرة بينه وبين هيلاري كلينتون في العام 2016. وبدا أنها أربكته وهي تمشي صوبه بينما يمشي إلى منصته ليتصافحا خلفها وتعرّف بنفسها، بما أنهما يلتقيان وجهاً لوجه للمرة الأولى، وتتمنى له مناظرة جيدة ثم تغادر إلى منصتها وتحولها، من اللحظة الأولى، إلى منصة ادّعاء في قاعة محكمة، المتّهَم فيها هو دونالد ترامب، وهيئة المحلفين هم المشاهدون الذين لم تتوان مرة عن مخاطبتهم محدقة في الشاشة، إما لتقدم مشروعها إليهم، أو لتقنعهم بأن الرجل الذي يشاركها المسرح "سيّئ" وخطير ولا يستحق فرصة ثانية في البيت الأبيض.
هكذا، ما أن بدأت بالإجابة عن السؤال الأول حتى كان واضحاً أنها ستستخدم كل مهاراتها في نصب شبكة من الأفخاخ لترامب، كما استنتج معظم الإعلام لاحقاً. وهاريس التي أقامت معسكراً تحضيرياً استمر خمسة أيام تمرنت خلالها على المناظرة بتفاصليها التي منها مجادلة خبير قام بتأدية دور ترامب، مع ربطة عنق طويلة، نجحت في حشر خصمها في زاوية الدفاع طوال الوقت، واستطاعت الدخول تحت جلده وإخراجه عن طوره مراراً.
بعد تقديم نفسها ابنة وفية للطبقة الوسطى، وتقديم مشروعها الاقتصادي بصفته في خدمة هذه الطبقة، راحت هاريس تتحايل في الإجابة عن كل الأسئلة في ملفين محرجين لإدارة بايدن في الاقتصاد والهجرة غير الشرعية، لتنهي إجابتها دائماً باتهام مباشر لترامب إن في الاقتصاد أو كوفيد أو الهجرة. وفي المقابل، كانت تتجاهل اتهاماته لبايدن ولها في الملفين، كي لا تنزلق إلى ما تريد لخصمها أن ينزلق إليه، أي الدفاع والتبرير. وعندما كرر العودة إلى ذكر بايدن للهجوم عليها من خلال رئيسها، ذكرته بأنه يخوض السابق معها هي وليس مع بايدن.
وكأنما كانت بانتظار الملف المناسب للفتك بترامب، استغلت الملف الأشد إرباكاً له، وهو الحقوق الإنجابية وحق الإجهاض، لتقديم مطالعة متماسكة في وجه من سيفرض منعاً للاجهاض على مستوى الاتحاد إذا ما عاد رئيساً إلى واشنطن. في دفاعه عن نفسه بشأن ملف يعجز لحسابات انتخابية معقدة أن يكون جازماً فيه، لم يجد ترامب حجة إلا الحديث عن ولايات "تعدم" الرضع بعد ولادتهم، لتكذبه مديرة الحوار مباشرة بعد إنهاء كلامه.
الملف الآخر الذي كان يمكن لترامب تسجيل إصابات مباشرة من خلاله كان الانسحاب الكارثي من أفغانستان. هنا أيضاً أحالت هاريس الموضوع إلى إدارة ترامب وحواره مع "طالبان" وعزمه خلال ولايته استضافة قادة الحركة في "كامب ديفيد" (قبل أن يلغي الاجتماع)، فاضطر مجدداً إلى الدفاع عن خياراته السابقة التي كانت هاريس تستنتج بعدها أنه آن الأوان لفتح صفحة جديدة.
والصفحة الجديدة تعني لهاريس، في ما تعني، أن أميركا لا تريد متهماً عددت له كل ما اتهم فيه، أحداث السادس من كانون الثاني (يناير) ضمناً، ولا تريد رئيساً "أضحوكة" عند توليتاريين مثل فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، ولا تريد أيضاً الأسطوانة المشروخة نفسها، داعية إلى حضور مهرجانات ترامب الانتخابية الهزيلة التي يغادر الجمهور قبل نهايتها لشدة ملله. هذا النزول مرتين "تحت جلده"، أخرجه عن طوره دراماتيكياً حين استشهد بأن رئيس حكومة هنغاريا يصفه بأنه "عظيم"، ثم ليدلي لاحقاً بـ"المعلومة" الأغرب في المناظرة وعلى الأرجح من الأغرب في تاريخ المناظرات: "المهاجرون في (منطقة) سبرينغفيلد بولاية أوهايو يأكلون الكلاب، يأكلون القطط، يأكلون الحيوانات الأليفة". ضحكت هاريس بينما مدير الحوار يجادله بأن ادعاءه ليس صحيحاً، وفي الوقت نفسه كانت السوشال ميديا قد انفجرت بالسخرية منه وبصور قطط وكلاب مرتعبة وهي تستمع إلى ما يقول.
لم تنته المناظرة بمصافحة كما بدأت، ولم يدل المتنافسان بأي جديد لجمهوره أو للجمهور المنافس، وإن عملت هاريس على تقديم أوراق اعتمادها للأميركيين كما للمترددين كالأفضل لمنصب الرئيس. الديموقراطيون من جهتهم بدوا كمن تنهدوا جماعياً بعد استيقاظهم من كابوس مناظرة بايدن. فبخلاف رئيسها، كانت هاريس حاضرة ذهنياً ومتحفزة وأعصابها متماسكة في وجه الخصم الذي بات متمرساً في خوض المناظرات الرئاسية. وجزم الإعلام بأنها استطاعت التحكم بإدارة اللعبة على العكس من ترامب الذي لم يستطع مجاراتها في هدوء أعصابها وفشل في تجنب مصيدتها.
بعد قليل من نهاية المناظرة، وبينما المعسكران يحتفلان بالانتصار الذي حققه مرشحهما على الآخر، تلقى دونالد ترامب خبراً سيئاً. الفنانة تايلور سويفت أعلنت في رسالة نشرتها على حسابها على "إنستغرام" أنها ستنتخب كامالا هاريس وتيم والز، شارحة الأسباب، وداعية الجيل الشاب، بخاصة من سينتخب للمرة الأولى، إلى التسجيل للاقتراع. على الأرجح أن لا أحد يجهل من هي تايلور سويفت، لكن لا بأس بالتذكير بأنها حالياً النجمة الأكثر شهرة وجماهيرية على مستوى الكوكب، وأن آخر جولة فنية لها في الولايات المتحدة تركت أثراً إيجابياً على عجلة الاقتصاد الأميركي، وأن لديها جيشاً هائلاً من المعجبين يطلقون على أنفسهم اسم "سويفتز" يرون فيها ما يتخطى الأيقونة. وإذا كان من انتصار لهاريس سجل الثلاثاء فهو هذا الدعم من سويفت التي نشرت رسالتها مع صورتها تحتضن قطة، ووقعتها بالوصف الذي أطلقه جي دي فانس سابقاً، وعاد ليطارده بعدما اختاره ترامب نائباً له: "سيدة القطط البتراء".