انتهى “مؤتمر السلام في أوكرانيا”، الذي عقد نهاية الأسبوع الماضي في بورغنشتوك السويسرية، ببيان ختامي حذف القضايا الحساسة والخلافية، لاسيما تلك المتعلقة بالتسوية في مرحلة ما بعد الحرب، وانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودعا في المقابل إلى استعادة كييف سيطرتها على محطة زابوريجيا النووية وموانئها على بحر آزوف.
لكنّ لا يبدو أن روسيا بصدد التخلي عن سيطرتها على هذه المناطق، فقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل انعقاد القمة أن بلاده لن توقف الحرب "إلّا بعد سحب كييف كامل قواتها من أربع مناطق تسيطر عليها موسكو جزئياً" وهي المناطق التي أعلنت ضمها من جانب واحد، كما طلب من أوكرانيا "التخلي عن طموحاتها في الانضمام إلى الناتو"، الأمر الذي رأت فيه أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون "طلباً للاستسلام".
المناطق الأربع التي يطالب بها الكرملين هي تلك المطلة على بحر أزوف حيث تستعر المعارك. ومن الواضح أنه بعد فشل الجيش الروسي في السيطرة على العاصمة كييف، تحوّل الهدف نحو السيطرة على المناطق الممتدة من لوغانسك شرقاً حتى خيرسون شمال شبه جزيرة القرم، بعد المعارك الطاحنة التي شهدتها منطقة أوديسا المطلة على البحر الأسود، والتي ستبقى هدفاً استراتيجياً لأسباب عدة منها تحويل أوكرانيا إلى "دولة حبيسة"، أي أنها لا تملك إطلالة بحرية وبالتالي خسارة كل موانئها وهذا سيرتبط حكماً بإمدادات الحبوب. والسبب الآخر، لضمان اتصال جغرافي مع ترانسنيستريا، الإقليم الانفصالي الحليف لموسكو في مولدوفا، ما يعني عملياً تطويق أوكرانيا من ثلاث جهات وجعلها "حبيسة" السياسة الروسيّة.
وبعد القمة، قال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف للصحافيين إن نتائج الاجتماع "قريبة من الصفر"، معرباً في الوقت نفسه استعداد روسيا للمشاركة في أي محادثات مستقبلية.
طريق مليء بالتحديات
في المحصلّة، عُقد المؤتمر من دون توجيه دعوة إلى روسيا، واعتذار بكين عن الحضور لغياب موسكو، فيما شاركت البرازيل في القمة بصفة "مراقب"، وامتنعت الهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية عن التوقيع على البيان الختامي.
ولعلّ تغييب روسيا عن القمة والغياب الصيني الطوعيّ، كانا وراء التحفظات التي أبدتها بعض الدول المشاركة على البيان الختامي.
وفي كلمتها الختامية، حذّرت الرئيسة السويسرية فيولا أمهيرد من أن "الطريق أمامنا طويل ومليء بالتحديات"، قائلة إن الغالبية العظمى من المشاركين وافقت على الوثيقة النهائية، التي "تظهر ما يمكن أن تحققه الدبلوماسية"، لكن اللافت ما أشار اليه في المقابل وزير خارجيتها إغنازيو كاسيس من أن سويسرا "ستتواصل مع السلطات الروسية" من دون ذكر تفاصيل إضافية.
وعن هذا التوجه، اكتفى نائب المسؤول الإعلامي في الخارجية السويسرية فالنتين كليفاز، في ردّ على أسئلة "النهار" بأنه "من السابق لأوانه التعليق بالتفصيل على الخطوات التالية في هذه العملية"، وأن بلاده تقوم حالياً "بتحليل نتائج القمة، وسنقرر بعد ذلك كيفية المضي قدماً".
في انتظار نتائج المساعي الدولية، برز موقف مدير مكتب الرئيس الأوكراني أندريه يرماك من أن عقد قمة ثانية لن يكون ممكناً "إلّا بعد أن تضع الدول الأعضاء خطة مشتركة، وهي عملية يتوقع أن تستغرق عدة أشهر"، والنقطة الأهم في تصريحه الصحافيّ أنه "من الممكن دعوة ممثل روسيّ الى حضور القمة الثانية لعرض خطة السلام التي تقررها تلك القمة".
وكان وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا قال خلال القمة: "ندرك تماماً أنه سيأتي وقت سيكون فيه من الضروري التحدث مع روسيا، لكننا لن نسمح لها باستخدام لغة التهديد والوعيد كما تفعل الآن".
التنازلات الصعبة شرط سعوديّ
وبينما يتحدث مسؤولون أوكرانيون عن بدء الأعمال التحضيرية لتنظيم قمة سلام ثانية، لم تعرض أي دولة استضافة اجتماع آخر على غرار قمة بورغنشتوك.
ولم تعلق السعودية التي تردد اسمها ضمن الدول المرشحة للاستضافة.
وقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود إن المملكة "مستعدة لدفع عملية السلام لكن التوصل لتسوية فعالة سيحتاج إلى تنازلات صعبة".
وعن الموقف السعودي ذكّر الدكتور خالد باطرفي المحاضر في جامعة الفيصل والكاتب السياسي بأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي قام بعدد من الزيارات للمملكة العربية السعودية. وتوقع في اتصال مع "النهار" دوراً سعودياً الوساطة وقمة مرتقبة في الرياض، لافتاً إلى أن المملكة استضافت أصلاً مؤتمراً لأوكرانيا في جده قبل أشهر. لكنّه شدّد، من جهة ثانية، على أن "الرياض في الوقت الذي ترحب بالقيام بدور إيجابي لحلّ الصراع بحكم علاقاتها المتميزة مع جميع الأطراف، إلّا أنها تشترط أن يتم ذلك بعد توافق طرفي الصراع على هذا الدور، والطلب منها القيام به. وحتى الآن لم يتحقق هذا الشرط".
أمام هذه المعطيات، مع ما يرافقها من تطورات ميدانية عسكرية، خرجت قمة السلام في سويسرا، ببند كان الأكثر واقعية، إذ اقترحت وثيقة البيان الختامي أن "إحلال السلام يتطلب مشاركة وحواراً بين كل الأطراف" في إشارة واضحة إلى روسيا.
ما حصل ليس سوى الخطوة الأولى في "رحلة السلام" كما اسمتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عندما قالت خلال القمة:"نعلم أن السلام في أوكرانيا لن يتحقق في خطوة واحدة بل سيكون رحلة" ودعت إلى التحلي "بالصبر والعزيمة". وإلى ذلك الحين يبدو أن أوكرانيا ستبقى "حبيسة" الجغرافيا السياسية بين طرفين يتصارعان على ماهيّة النظام العالمي.