النهار

الدّراسات المناخيّة في قبضة التّسييس... لماذا الحرب على الهندسة الجيولوجيّة؟
د. بيورن لومبورغ
المصدر: النهار العربي
إن فكرة وجود سياسة صحيحة واحدة فقط ــ خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصِفر في إطار زمني قصير ــ هي فكرة سخيفة، وبخاصة عندما تفشل هذه السياسة الوحيدة على مستوى العالم.
الدّراسات المناخيّة في قبضة التّسييس... لماذا الحرب على الهندسة الجيولوجيّة؟
الهندسة الجيولوجية لتبريد الكوكب؟
A+   A-
 
 
تشهد الدراسات المناخية تسييساً متزايداً، وأغلقت جامعة هارفارد أخيراً مشروعاً بحثياً مهماً في مجال الهندسة الجيولوجية بسبب ردود الفعل العنيفة، على رغم تطلع الكلية لأن تصبح "منارة عالمية في مجال تغير المناخ".
 
وتعتبر الهندسة الجيولوجية إحدى الطرق التي يمكن للبشرية من خلالها التعامل مع المشكلة الحقيقية لتغير المناخ. ويتمثل النهج المعياري الذي يركز عليه معظم العالم الغني، في محاولة خفض انبعاثات الكربون وتحويل الاستثمارات إلى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
 
ومع ذلك، فإن هذا النهج صعب ومكلف بشكل لا يصدق، لأن الوقود الأحفوري لا يزال يزود معظم دول العالم بالطاقة بفعالية. وعلى رغم عقود من الدعم السياسي لتخفيض الوقود الأحفوري، إلا أن الانبعاثات لا تزال تتزايد، إذ شهد العام الماضي أعلى مستوياتها على الإطلاق.
 
وفي المقابل، تحاول الهندسة الجيولوجية خفض درجة حرارة الكوكب مباشرةً. ويتمثل أحد الأساليب في إطلاق ثاني أوكسيد الكبريت إلى طبقة الستراتوسفير، وهو ما من شأنه أن يبرد الكوكب.
هناك أدلة كثيرة إلى نجاح هذا الأمر، فالبراكين المتفجرة عادة ما تضخ الجسيمات إلى طبقة الستراتوسفير، حيث يعكس كل جسيم القليل من ضوء الشمس إلى الفضاء. في عام 1991، أدى ثوران جبل بيناتوبو إلى تبريد الأرض حوالى 0.6 درجة مئوية لمدة 18 شهراً.
لم يكن باحثو جامعة هارفارد يحاولون فعل أي شيء عظيم جداً. لقد أرادوا ببساطة إطلاق منطاد واحد على ارتفاعات عالية لإطلاق كمية صغيرة من الجسيمات عالياً فوق الأرض. كانت تجربتهم ستجمع بيانات توضح كيفية تشتت الجسيمات وكمية ضوء الشمس التي تعكسها.
 
ولأن العالم فشل حتى الآن في معالجة تغير المناخ من خلال تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، يبدو من الحكمة أن نبحث أيضاً عن سياسات أخرى يمكن أن تعالج أجزاء من المشكلة. حتى الأمم المتحدة اعترفت في عام 2019 بأنه "لم يكن هناك تغيير حقيقي في مسار الانبعاثات العالمية في العقد الماضي"، على رغم اتفاقية باريس لعام 2015. ومنذ ذلك الحين، استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة في الوصول إلى مستويات قياسية جديدة مع "عدم وجود نهاية في الأفق لهذا الاتجاه التصاعدي"، وفقاً لتقرير جديد صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية. نحن لسنا في وضع يسمح لنا بتجاهل أي طريق لحل مشكلة تغير المناخ.
 
لسوء الحظ، وكما وجد تقرير صحيفة "هارفارد كريمسون"، فإن الضغط الذي يمارسه نشطاء المناخ جعل هذا الأمر مستحيلاً بالنسبة إلى العلماء. حتى الناشطة البارزة غريتا ثونبرج انتقدت الاختبارات الأولى المخطط لها في شمال السويد. ثم اقترح المجلس السامي للسكان الأصليين الذي ستكون الاختبارات فوق أراضيه، أن إطلاق بالون واحد في السماء يحمل "مخاطر العواقب الكارثية". وقفز السياسيون على متن العربة، بمن في ذلك وزير الخارجية السويدي السابق الذي أعلن أن الهندسة الجيولوجية هي "جنون"، بينما دفع النشطاء الشباب الممولين الأكاديميين إلى قطع مثل هذه الأبحاث.
 
بالإضافة إلى الناشطين، يشير الباحث الرئيسي في المشروع بإصبعه إلى "أقلية صاخبة" من العلماء الذين يتفقون مع الناشطين على أن الهندسة الجيولوجية قد توفر عذراً لعدم خفض الوقود الأحفوري من خلال تسليط الضوء على حل آخر محتمل لتغير المناخ. ومن بين هؤلاء العلماء أستاذ المناخ مايكل مان الذي يدعي أن الهندسة الجيولوجية هي حل خبيث وكاذب يقدمه الملوثون لمواصلة الربح من الوقود الأحفوري. المجلس السامي عارض تجربة هارفارد لأن البحث "يمكن أن يضر بالجهود الضرورية التي يبذلها العالم لتحقيق مجتمعات خالية من الكربون".
 
هذا ليس علماً، بل عقيدة. إن فكرة وجود سياسة صحيحة واحدة فقط ــ خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصِفر في إطار زمني قصير ــ هي فكرة سخيفة، وبخاصة عندما تفشل هذه السياسة الوحيدة على مستوى العالم. والحقيقة هي أن الهندسة الجيولوجية يمكن أن تكون ابتكاراً مفيداً للغاية، حتى لو كانت تنطوي على مخاطر.
في المقابل، يمكن للهندسة الجيولوجية من حيث المبدأ أن تنهي ارتفاع درجات الحرارة العالمية - وحتى تعكسه - بتكلفة منخفضة. تقدم الهندسة الجيولوجية تكلفة تبلغ عشرات إلى مئات المليارات من الدولارات على مدار القرن الحادي والعشرين، مقارنة بسياسة قياسية تكلف عشرات الآلاف من الأضعاف.
 
إن الهندسة الجيولوجية هي الطريقة الوحيدة الممكنة التي حددتها البشرية لخفض درجات الحرارة بسرعة. فإذا رأينا الغطاء الجليدي في غرب القطب الجنوبي يبدأ في الانزلاق إلى المحيط ــ وهو ما قد يشكل كارثة عالمية ــ فلن تتمكن أي سياسة معيارية للوقود الأحفوري من إحداث أي تغيير ملموس. وحتى لو تمكنت جميع الدول من خفض انبعاثاتها إلى الصفر في غضون أشهر، فإن درجات الحرارة لن تنخفض، بل ستتوقف عن الارتفاع.
 
وفي المقابل، يمكن للهندسة الجيولوجية، من حيث المبدأ، إنهاء ارتفاع درجات الحرارة العالمية - بل حتى عكس اتجاهه - بتكلفة منخفضة. تقدم الهندسة الجيولوجية تكلفة تبلغ عشرات إلى مئات المليارات من الدولارات على مدار القرن الحادي والعشرين، مقارنة بسياسة قياسية تكلف عشرات الآلاف من الأضعاف.
 
وبطبيعة الحال، لا ينبغي للعالم أن يبدأ ضخ الجسيمات إلى الغلاف الجوي في أي وقت قريب. ولكننا بحاجة إلى معرفة ما إذا كانت هذه التكنولوجيا ناجحة ونحتاج أيضاً إلى معرفة أي آثار سلبية محتملة من استخدامها. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه من المحتمل أن ترغب الدول، بل العالم بأسره، في النظر في استخدام هذا النهج لاحقاً، ولكن أيضاً لأن تكلفة الهندسة الجيولوجية رخيصة جداً بحيث خطر أن تقوم دولة واحدة، أو ملياردير متمرد، أو حتى منظمة غير حكومية نشطة للغاية يمكن أن تنفذ التكنولوجيا بمفردها. نحن بحاجة للتأكد من أن العالم يعرف التداعيات. وهذا يتطلب البحث.
 
هذه الاعتبارات هي السبب في أن كلاً من المجلة العلمية "نيتشر" وإدارة أوباما أيدتا الأبحاث في مجال الهندسة الجيولوجية، حتى إدارة بايدن قدمت دعماً محسوباً.
 
تماماً كما هي الحال مع أي بحث آخر، تحتاج البشرية إلى معرفة ما الذي ينجح وما هي المشكلات التي قد تنشأ في المستقبل. إن تسييس أبحاث المناخ خوفاً من أن تؤدي إلى نتائج غير مرغوب بها سياسياً هو أمر سيئ للعالم.

اقرأ في النهار Premium