النهار

روسيا تحت ضغط أطلسي بارد... وترامب قد يعيد خلط الأوراق في أوروبا
باسل العريضي
المصدر: "النهار"
الضغط "العسكري البارد" الأميركي على روسيا، قد تخفّ وطأته مع عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي أكد أكثر من مرة خلال جولاته الانتخابية أنه سينهي الحرب في أوكرانيا.
روسيا تحت ضغط أطلسي بارد... وترامب قد يعيد خلط الأوراق في أوروبا
الجيش الأوكراني يقصف القوات الروسية مستخدماً مدفعاً فرنسياً (أرشيفية - أ ف ب)
A+   A-

بين أرمينيا وروسيا الاتحادية علاقة كانت بمثابة نموذج للعلاقات الثنائية المثالية لما بعد زمن الاتحاد السوفياتي وانهيار العلاقات الثنائية بين روسيا وبعض جمهورياته وحليفاته التي بات بعضها ضمن حلف شمال الأطلسي "الناتو" لاسيما أوروبا الشرقية.

 

أرمينيا ودول أخرى قليلة كانت من ضمن الاستثناءات، وأسست مع روسيا ما يعرف بـ"منظمة معاهدة الأمن الجماعي" وهي عبارة عن تحالف عسكري في أوراسيا. ويؤكد ميثاق المنظمة على الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها بين الدول الأعضاء، كما لن يتمكن الموقعون من الانضمام إلى تحالفات عسكرية أخرى أو مجموعات دول أخرى، ويُنظر إلى العدوان على أي دولة على أنه عدوان ضد كل الدول. ولهذه الغاية كانت تجرى مناورات عسكرية دورية بين الدول الأعضاء. وتأسيس "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" بدا وكأن روسيا تحاول البحث عن "بدل عن ضائع" بعد انهيار المنظومة الشيوعية وسقوط حلف وارسو، الندّ لحلف "الناتو" في زمن الحرب الباردة.  

 

كلّ ذلك تغيّر في أيلول (سبتمبر) 2023 عندما شنّت أذربيجان هجوماً كاسحاً على إقليم ناغورني كراباخ أو "آرتساخ" بحسب التسمية الأرمينية، منهية بذلك حكماً ذاتياً أرمينياً استمر ثلاثة عقود. وأدت هذه الحرب الخاطفة إلى تهجير سكان الإقليم المحاصر داخل الاراضي الاذربيجانية، وهم جميعهم من الأرمن. ومن هنا بدأ تدهور العلاقات بين أرمينيا وروسيا، لاسيما مع توجيه حكومة يريفان الاتهامات الى قوات حفظ السلام الروسية بالفشل في منع الهجوم الأذربيجاني، وعلى رغم نفي موسكو هذه الاتهامات، إلّا أن رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان اتخذ خطوة "هجومية" بانضمام بلاده الى المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي سياق كلّ ذلك لم تستطع روسيا أن تخفي قلقها من التقارب المتزايد بين أرمينيا والغرب، إلى أن بلغت هذه المخاوف أقصاها مع تأكيد باشينيان أن بلاده ستنسحب من "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" التي تقودها روسيا، متهماً أعضاء التكتل الأمني بالتخطيط لحرب ضد بلاده مع أذربيجان. أكثر من ذلك، فإن هذا التصريح لم يكن الأول من نوعه وجاء قبل يومين فقط من بدء مناورة عسكرية مشتركة بين الجيشين الأرميني والأميركي بدأت في 15 تموز (يوليو) وتستمر عشرة أيام.

 

من مراسم حفل بدء المناورات العسكرية الأميركية الأرمينية (أ ف ب) 
 

الشريك النسر

المناورات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة تعكس جهود يريفان لتوطيد أوثق العلاقات مع واشنطن والحلفاء الغربيين الآخرين، على حساب تلك التي مع موسكو، وقد أطلق عليها اسم "الشريك النسر". مع الإشارة إلى أن أرمينيا استضافت المناورة نفسها وتحت المسمى نفسه العام الماضي، ووصفت موسكو الخطوة وقتها بـ"غير الوديّة" خصوصاً أن لها قاعدة عسكرية في أرمينيا.

 

"الكابوس" الروسي لم ينته هنا، إذ إن الحليف السابق انقلب بالكامل مع مشاركته في الذكرى الـ 75 لقيام حلف "الناتو" والتي عُقدت في واشنطن، لاسيما أن موسكو لم تُسقط، بعد سنتين على الحرب، من حسابات الغرب إمكانية انضمام أوكرانيا مستقبلاً الى الأطلسي.

 

وقد عبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عن ذلك بالقول إن تصرفات يريفان "تثير مخاطر زعزعة استقرار منطقة جنوب القوقاز على النطاق الأوسع". وعن المناورات العسكرية أشارت إلى أنها تبعث على القلق. وأوضحت زاخاروفا في مؤتمر صحافي أن توثيق العلاقات بين يريفان والأطلسي "ليس مدعاة فقط للأسف بل أيضاً للقلق على مستقبل أرمينيا".

 

"الناتو" على الأبواب

في مطلع ستينيات القرن الماضي، مع "أزمة الصواريخ الكوبية" استطاع الاتحاد السوفياتي تحقيق تسوية بازالة الصوايخ من الجزيرة الكاريبية مقابل سحب الولايات المتحدة صواريخها من تركيا.

الأسبوع الماضي، أعلنت واشنطن أنها ستبدأ نشر أسلحة في ألمانيا اعتبارا من عام 2026 تشمل صواريخ "أس.أم-6" وصواريخ "توماهوك" وصواريخ جديدة فرط صوتية في مسعى لإظهار التزامها تجاه دول حلف شمال الأطلسي والدفاع الأوروبي. وهنا تبدو خيارات موسكو بعيدة عن تلك في ستينات الحرب الباردة، وهي تقتصر حالياً على داخل الأراضي الروسية وهذا ما يؤكده تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، من أن بلاده "لا تستبعد عمليات نشر جديدة لصواريخ نووية" رداً على خطط الولايات المتحدة نشر أسلحة تقليدية بعيدة المدى في ألمانيا.

 

ونقلت وكالة "إنترفاكس" عن ريابكوف قوله إن الدفاع عن منطقة كالينينغراد الروسية، الواقعة بين بولندا وليتوانيا، وهما من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، يحظى بتركيز خاص على رغم انتشار أخبار عن أنها قد تنشر صواريخ في شرق ليبيا حيث لموسكو قواعد عسكرية.

 

التحركات الأميركية تشمل طول الحدود الروسيّة مع أوروبا، وبعد انضمام السويد وفنلندا إلى حلف "الناتو" قررت الأخيرة السماح للقوات الأميركية باستخدام 15 منشأة من قواعدها العسكرية، المسألة التي زادت من التوتر الروسيّ وعلّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية أندريه ناستاسين بأن بلاده سترد على "قرارات فنلندا العدوانية" مؤكداً أنها "لن تترك التعزيزات العسكرية لحلف شمال الأطلسي التي تهدد أمن روسيا الاتحادية على حدودها من دون رد".

 

وقبل ذلك، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد نوّه الشهر الماضي بأن الجيش الروسي سوف يستأنف إنتاج صواريخ أرضية قصيرة ومتوسطة المدى، وستقرر موسكو "أين ستنشرها إذا لزم الأمر". مع الإشارة هنا إلى أن معظم أنظمة الصواريخ الروسية مصممة لتتمكن من حمل رؤوس حربية إما تقليدية أو نووية.

 

ترامب خلال مؤتمر الحزب الجمهوري (أ ف ب) 
 

هل يأتي ترامب بالحلّ؟

الضغط "العسكري البارد" الأميركي على روسيا، قد تخفّ وطأته مع عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي أكد أكثر من مرة خلال جولاته الانتخابية أنه سينهي الحرب في أوكرانيا. كذلك فإن اختياره عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو جيه دي فانس نائباً له يعزز هذه الفرضية كون مواقفه تصبّ أيضاً في اتجاه معارضته مساعدة أوكرانيا وتركيزه شبه الوحيد على الصين باعتبارها التحدي الأمني الأول للولايات المتحدة.

وإن حقق الجمهوريون هذا الفوز، يعني أن السياسة الخارجية الأميركية ستنصب باتجاه الشرق الأقصى، ما يعزز المخاوف الأوروبية من تراجع الدعم الأميركي. وينقل موقع  The Conversationأنه خلال "مؤتمر ميونيخ للأمن 2024" أخبر فانس محاوريه الأوروبيين أنه "مهتم ببعض المشاكل في شرق آسيا في الوقت الحالي أكثر بكثير من اهتمامي بأوروبا".

وبالنسبة الى المرشح لمنصب نائب الرئيس، من الأفضل إرسال الأسلحة إلى تايوان بدل أوكرانيا، كما جاء في مقالة افتتاحية كتبها فانس في صحيفة "نيويورك تايمز" وقال فيها إنه "يجب على واشنطن إقناع كييف بالتخلي عن هدف استعادة سيادتها الكاملة داخل حدودها المعترف بها دولياً عام 1991 والبدء بالتفاوض مع روسيا".

الأوروبيون الواقعون تحت عجز عسكري غير قادر على تلبية متطلبات الحرب الأوكرانية، يعانون من تضخم في اقتصادهم الذي تفاقم بفعل الحرب وبعد جائحة كوفيد-19. وعلى رغم  أن ألمانيا خصصت 73 مليار دولار للدفاع في 2024، ليتجاوز الإنفاق العسكري عتبة 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة المطلوبة من حلف الأطلسي، لكنها تخطط في المقابل لخفض مساعداتها العسكرية لكييف إلى النصف العام المقبل.

 

أمام هذه المعطيات لم يكن مفاجئاً أن يأتي إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بعد مشاركته في قمة "الناتو" في واشنطن، تأييده مشاركة روسيا في قمة مقبلة حول السلام في أوكرانيا تنظمها كييف، وكان مؤتمر السلام الذي عقد في سويسرا الشهر الماضي قد أشار بوضوح إلى ضرورة مشاركة كل الأطراف في المفاوضات بعد ان استبعدت موسكو عنه ورفض الصين المشاركة. وأكد زيلينسكي أنه غير قلق من فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية.

 

"عدم قلق" الرئيس الأوكراني أمر مشكوك فيه، مع إمكانية التحول الكامل من الأطلسي، إلى المحيطين الهندي والهادئ للتفرغ لمواجهة الصين. علاوة على ذلك، من المرجح أن يؤدي أي اتفاق مع روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا إلى زيادة الضغط الأميركي على أوروبا، للاهتمام بسياستها الدفاعية، وهذا الأمر كان ترامب قد شدّد عليه خلال ولايته الرئاسية السابقة، ولاتزال صورته محاطا بالقادة الأوروبيين بينما هو جالس على كرسيه، راسخة في الأذهان.


اقرأ في النهار Premium