تعد بنغلاديش من أكبر المساهمين في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وكانت أول دولة في جنوب آسيا تنشر عناصر من قواتها النظامية للعمل مع المنظمة الدولية، وذلك في عام 1988 عندما تمّ نشرهم للمساعدة في مراقبة الهدنة بين إيران والعراق.
لكنّ عمل هذه الدولة الواقعة في جنوب آسيا، على إحلال السلام العالمي لم ينطبق على المسار الداخلي، إذ أنها ومنذ استقلالها عام 1971 شهدت موجات من الاضطرابات السياسية والانقلابات.
والاضطراب السياسي في البلاد مصحوب بواقع اجتماعي اقتصادي، فهي تعدّ من بين أكثر الدول كثافة للسكان في العالم، وتعاني من فقر شديد رغم الجهود الحكومية لزيادة النمو الاقتصادي. وفي الوقت عينه، ساهم تفشي ظاهرة قطع الغابات لإقامة مراع ومناطق زراعية بإحداث تقلبات مناخية حادة وجعلها عرضة للفيضانات والأعاصير والانهيارات الأرضية.
مجموع هذه الوقائع وضع الدولة الآسيوية في دائرة من العجز المالي، إذ أنها مصنفة من بين أول عشر دولة مديونية لصندوق النقد الدولي. ولفهم الأسباب التي أدت إلى قيام تظاهرات وصفت بأنها الأسوأ في التاريخ الحديث، لابدّ من المرور على الواقع الجيوسياسي ونشأة بنغلاديش.
باكستان الشرقية
كانت بنغلاديش، جزءاً من باكستان وتعرف باسم "باكستان الشرقية"، وذلك بعد تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، بناء على طلب المسلمين إقامة دولة خاصة بهم مستقلة عن الهند، فكان ذلك بعد سلسلة من الاضطرابات السياسية الداخلية والمواجهات الخارجية. ولم تكن الأحداث على هذه البقعة من الخريطة بعيدة عن الحرب الباردة، والصراعات الإقليمية الرديفة التي نشأت على ضفافها.
استقلال باكستان، بعد انسحاب البريطانيين من الهند بعد الحرب العالمية الثانية، جاء حاملاً معه خلافات حدودية مع الهند في منطقة كشمير أدت إلى نشوء أول حرب بين الدولتين عام 1948، وبقيت نيودلهي تعمل على إضعاف موقف إسلام أباد، وصولاً إلى عام 1971 مع محاولات "باكستان الشرقية" الانفصال عن "باكستان الغربية"، وفي آذار (مارس) من ذلك العام أعلن السياسي القومي البنغالي الشيخ مجيب الرحمن الاستقلال عن باكستان، ما أدى إلى حرب أهلية استمرت تسعة أشهر، انتهت باعلان الاستقلال في كانون الأول (ديسمبر) 1971، إثر دخول القوات الهندية إلى دكا وإجبار القوات الباكستانية على توقيع وثيقة الاستسلام.
ومع قبول باكستان بالهزيمة، نشأت بنغلاديش دولة مستقلة عاصمتها دكا، وسارعت الهند الى الاعتراف بالدولة الجديدة وجسدت تحالفها رسميا من خلال عقد معاهدة السلام والصداقة والتعاون بين البلدين.
غير أن هذا الاستقلال لم يأت من البوابة الهندية فقط، إذ أنه في سيتينات القرن الماضي كان الصراع قد بلغ حدّه بين الاتحاد السوفياتي والصين، ووصل إلى التهديد باستخدام أسلحة نووية، وفي الوقت عينه للهند خلافات حدودية مع الصين، فاتخذت موسكو موقفاً إلى جانب نيودلهي على حساب بكين، خشية من أن الدعم الصيني لباكستان في حربها ضد الهند في منطقة كشمير قد يعزز من نفوذها الاقليمي.
أما موقف الولايات المتحدة فذهب باتجاه الضغط نحو حلّ النزاع الهندي الباكستاني بالطرق السلمية والتفاوض تحت راية الأمم المتحدة، فالهاجس عند واشنطن كان ولايزال بناء موانع جيوسياسية أمام النفوذين الصيني والروسي باتجاه المحيط الهندي.
ثورة سياسية طلابية
في أول تموز (يوليو) الجاري، بدأ طلاب الجامعات بإغلاق الطرق وخطوط السكك الحديد، وذلك تنديداً بـ"نظام الحصص في الوظائف العامة"، وبدأت تتفاقم الأوضاع الأمنية، ووصل عدد الذين قتلوا في المواجهات مع القوى الأمنية الى ما لا يقلّ عن 160 شخصاً، فتحولت إلى أسوأ أعمال عنف تشهدها البلاد في عهد رئيسة الوزراء الشيخة حسينة التي تتولى السلطة منذ 15 عاماً.
والمشكلة في "نظام الحصص"، أن المتظاهرين يرون فيه ذريعة خدمة للمقربين من السلطة على حساب مرشحين عاطلين من العمل أكثر استحقاقاً لها. وبالنسبة اليهم فإن ثلث وظائف القطاع العام مخصصة لأقارب المحاربين القدامى الذين شاركوا في حرب الاستقلال عن باكستان عام 1971، وبالتالي لابدّ من إلغاء هذا النظام والعمل على التوظيف على أساس الجدارة، خصوصاً أن أكثر من 60 في المئة من السكان هم من فئة الشباب. وتشير التقديرات إلى أن حوالى 18 مليون شاب يبحثون عن وظائف، ويواجه خريجو الجامعات معدلات بطالة أعلى من أقرانهم الأقل تعليماً.
وفي غضون أيام قليلة لم تعد التظاهرات تقتصر على الطلاب، بل شملت أطيافا أخرى من المواطنين، متهمين السلطات بالفساد، وهذا ما وعدت الشيخة حسينة بالتصدي له ومعاقبة المرتكبين في محاولة لتهدئة الشارع. بالتزامن قلّصت المحكمة العليا الحصص المخصصة لأبناء حرب الاستقلال "المقاتلين من أجل الحرية" وأحفادهم، من 56 في المئة من كل الوظائف العامة إلى سبعة في المئة، بينما ستُمنح 93 في المئة من الوظائف على أساس المؤهلات، إلّا أن القرار لا يرقى إلى مطالب المحتجين بإلغاء فئة "المقاتلين من أجل الحرية" بأكملها.
وقد لاقت التحركات الميدانية للسلطة والحصيلة العالية من القتلى والمصابين في صفوف المتظاهرين انتقادات واسعة، لاسيما من سفير الولايات المتحدة في بنغلاديش بيتر هاس، ومن جانب الأمم المتحدة التي طالبت بتقديم تفسيرات واضحة بشأن الاستخدام المفترض لناقلات جنود مدرّعة تحمل شعار الأمم المتحدة ومروحيات لقمع الاحتجاجات.
غير أن الاضطراب السياسي لا يمكن فصله عن الصراع الهندي الصيني مع قيام الأخيرة ببناء ميناء للغواصات في بنغلاديش مباشرة على مصب خليج البنغال، وستكون الغواصات التي تديرها البحرية الصينية قريبة بشكل خطير من مراكز للقيادة التابعة للبحرية الهندية حيث غواصاتها النووية. كما سبق للصين أن حذرت بنغلاديش من الانضمام إلى التحالفات السياسية والأمنية التي تقوم بها واشنطن في منطقتي الهندي والهادئ.