حين نستعرض أبرز الاغتيالات التي أدت إلى تغيير مسار التاريخ، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن مسألة اغتيال وليّ عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند في مدينة سراييفو، والتي كانت بحسب المؤرخين الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى بين دول وإمبراطوريات كان بينها صراع نفوذ ينتظر اشتعال فتيل الإنفجار.
و"سلاح الاغتيالات" قديم قدم التاريخ السياسي، والهدف من استخدامه كان لتغيير واقع معين، عادة ما ارتبط في التاريخ القديم بالوصول إلى سدة الحكم.
ومع تطور المجتمعات وأنظمة الحكم، وما رافقه من تغيير في مفاهيم السلطة والقوة والنفوذ، بدأت الاغتيالات تذهب باتجاه تصفية الأخصام لخلق واقع جديد، سواء في السياسة أو العسكر. لكن في أحيان أخرى كانت تخلق حافزاً لإشعال نار الخلافات بين الأطراف المتنازعة. ولا مجال هنا لذكر هذه الاغتيالات التي أدت إلى إحداث فرق. وبحسب التعريف أن الاغتيال يعني "أَهلكه وأَخذه من حيث لم يَدْر، أي قتَله غِيلة"، وعليه يكون من الصعب بمكان تأريخ أول عملية اغتيال سياسية بشكل دقيق.
أقتل أولاً...
وعلى اثر تسارع الأحداث في الشرق الأوسط في الأيام الأخيرة، والاغتيالات التي شهدتها الساحات المختلفة من لبنان إلى إيران، على ضوء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا بد من الذهاب إلى الصحافي الإسرائيلي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" رونين بيرغمان وكتابه الذي صدر عام 2018 بعنوان: "أقتل أولاً: التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل"، وفيه يشير الكاتب إلى أنه منذ الحرب العالمية الثانية، كانت إسرائيل من بين أكثر الدول تنفيذاً لعمليات الاغتيال. ويقول بيرغمان في حديثه إلى "التايمز أوف إسرائيل" عن كتابه أنه وقائع عن "سلسلة طويلة من النجاحات التكتيكية المذهلة، وأيضاً من الفشل الاستراتيجي الكارثي". ويضيف أن "إسرائيل لديها أفضل وكالات الاستخبارات في العالم، وأيضاً، أقوى آلة اغتيال في التاريخ"، وأنه في العديد من المناسبات، كان الهدف هو قتل الأعداء الأقوياء.
وبحسب بيرغمان، أن مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي والقادة السياسيين يرون أنه "كلما كان الردع الذي يخلقونه أكبر، تجنبوا الحروب والصراعات الكبيرة أو على الأقل وسعوا الفجوات بين هذه الأعمال العدائية الأوسع نطاقاً".
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن بيرغمان استوحى عنوان كتابه من عبارة وردت في كتاب التلمود تقول: "إذا جاء شخص ما ليقتلك، انهض واقتله أولاً". ويقول إن نسبة كبيرة ممن قابلهم "ذكروا هذه العبارة كمبرر لعملهم"، وأنه وضع كتابه، الذي استغرق العمل عليه نحو 8 سنوات، بناء على ألف مقابلة وآلاف الوثائق.
وفي لقائه مع "التايمز أوف إسرائيل"، يقول إن في تاريخ الدولة العبرية القائم منذ 70 عاماً، أكثر من 2700 عملية اغتيال، وأن القادة السياسيين شعروا أنه في متناول أيديهم "هذه الأداة" التي يمكنهم من خلالها "وقف التاريخ ويمكنهم التأكد من تحقيق أهدافهم بالاستخبارات والعمليات الخاصة، وليس بالتوجه إلى الحنكة السياسية والخطاب السياسي".
مصادفة قادت إلى حرب عالمية
بعيداً عن الكتاب ومضمونه، إن كانت الاغتيالات السياسية من وجهة نظر المنفذ تخرجه من أزمة وتغيّر مجرى التاريخ، سواء من خلال إزالة زعماء محوريين في لحظات حاسمة، أو خلق فراغات في السلطة، أو حشد الرأي العام، أو إثارة الاضطرابات السياسية، فإن تأثير الاغتيال لا يعتمد في حقيقة الأمر على جهة واحدة، فثمة عوامل أخرى تساهم في رسم خريطة المشهد، إذ إن الإجراءات اللاحقة التي يتخذها خليفة الزعيم السياسي أو الشخصية التي تعرضت للاغتيال، والحالة الاجتماعية السياسية ومستوى الإجماع في المجتمع المستهدف، والقدرة على الصمود، كلها من العومل التي تعمل أحياناً كثيرة بطريقة معاكسة لما كان يخطط له منفذ الاغتيال.
بالعودة إلى اغتيال وليّ عهد النمسا، فقد أدى الحادث إلى نشوب حرب عالمية بدل استقلال صربيا. وتروي "بي بي سي" عن هذه الحادثة كيف أن الأرشيدوق كان قد تعرض لمحاولة اغتيال أولى، لكنه قرر زيارة مرافقيه الذين أصيبوا فيها، غير أن الموكب دخل طريقاً لم يكن يفترض أن يسلكها، وأن "المصادفة الغريبة أن السيارة توقفت في مكان بالقرب من غافريلو برنسيب، وهو أحد أعضاء الخلية نفسها التي حاولت اغتيال الأرشيدوق في صباح اليوم ذاته، فأطلق النار عليه ما أدى إلى مقتله وزوجته صوفي".
و"المصادفة" هذه تحولت إلى حرب عالمية راح ضحيتها نحو 20 مليون شخص، وتعد هذه الحرب أهم نقاط التحول الجيوسياسي في التاريخ الحديث، إذ انها أدت إلى سقوط إمبراطوريات كبرى وإنشاء دول في مناطق مختلفة من العالم.