شكلت عملية تبادل الأسرى بين روسيا والغرب بعد أشهر من المفاوضات بوساطة تركية حفلة تجاذب سياسي في ألمانيا حول دور برلين المحوري فيها، ووصل الأمر إلى حد وصفها بالصفقة الشيطانية والقذرة، فيما بررت الحكومة إتمامها بأسباب إنسانية، فماذا عن المكاسب التي حققها بوتين وما هي تبعات الصفقة على الأوروبيين؟
استعراض قوة
أفضت الصفقة إلى إطلاق سراح 26 سجيناً، وصل منهم 13 إلى ألمانيا و3 إلى الولايات المتحدة، و10 مواطنين روس7 منهم مصنفون عملاء للكرملين مقابل 3 معارضين لبوتين ومن مؤيدي المعارض الراحل ألكسي نافالني.
وبينت القراءات والردود السياسية أن الصفقة التي شكلت أكبر عملية تبادل أسرى منذ نهاية الحرب الباردة، هي في غاية الأهمية لبوتين ليثبت داخلياً أنه قادر على إطلاق سراح أي عميل قاتل، وفي المقدمة العميل الروسي القابع في السجون الألمانية فاديم كراسيكوف المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة بجرم إطلاق النار على القائد الشيشاني الجورجي سليمخان شانغوشفيلي في حديقة برلين عام 2019. وحقيقة أنه اضطر لإطلاق سراح عدد قليل من معارضي الكرملين لن تضر به كثيراً، خصوصاً أن المعارضة لم تعد تشكل تهديداً له.
وفي السياق، بينت الكاتبة إيفا كفادبيك لشبكة التحرير الألمانية أن من الجيد أن يكون الأشخاص الذين يفترض أنهم أبرياء إلى حد كبير وفقاً لسيادة القانون أحراراً، ومع ذلك لا ينبغي للولايات المتحدة وألمانيا أن تعتبرا التبادل ناجحاً، وليس إلا مجرد استعراض للقوة من جانب موسكو، معتبرة أن ذلك لا يشكل نذيراً بمفاوضات محتملة بشأن وقف إطلاق النار في أوكرانيا، بل إن روسيا كانت لها مصلحة في إطلاق سراح عميلها المسجون في برلين قبل الانتخابات الأميركية، وربما لا تريد الاعتماد على الرئيس المحتمل دونالد ترامب.
وبخصوص المكاسب التي حققها بوتين من هذا التبادل، أفاد دان ستورياف من منظمة حقوق الإنسان الروسية في حديث صحافي بأنه "بإطلاق سراح منفذ جريمة القتل السياسية في تيرغارتن، يظهر كيف أن الكرملين يمكنه في النهاية استعادة مواطنيه بعقد الصفقات، والصفقة ترسل إشارة سيئة إلى العالم وفيها أنه بالإمكان ارتكاب جرائم قتل سياسية وفي النهاية يتم إطلاق سراحك بممارسة الضغوط والابتزاز".
وفي ظل الحديث عن أن اتفاقية التبادل كانت معقدة للغاية ونسجت بدبلوماسية سرية وبمشاركة أكثر من ست دول بينها النروج وسلوفينيا وبولندا، اعتبر محللون أنه كان لأنقرة اليد الطولى في إتمامها وجهازها السري تولى عملية التبادل في مطار أنقرة، بعدما كانت قد أنشأت قناة اتصال لنقل مطالب الطرفين، مذكرين بأنها لعبت مراراً وتكراراً دور الوساطة بين الغرب وروسيا وساعدت على فتح طرق الشحن لتصدير الحبوب والمنتجات الأوكرانية الأخرى عبر البحر الأسود، وجعل الممرات التجارية البحرية صالحة للملاحة مجدداً. وكل ذلك يدفع إلى القول بأن أنقرة تواصل رفع سمعتها وبأنها وسيط يمكن الاعتماد عليه، وتقوم بتعزيز مكانتها كدولة رئيسية للسلام الإقليمي والعالمي، وتفرض نفسها دولة أكثر موثوقية على مستوى العالم.
معضلة سياسية جلبها بوتين عمداً
واعتبر خبير السياسية الخارجية المنتمي إلى الحزب المسيحي الديموقراطي رودريش كيزهفتر، في حديث إلى القناة الثانية في التلفزيون الألماني "زد دي أف"، "أننا سنكون أمام معضلة سياسية جلبها بوتين عمداً، وهو الذي أراد إظهار موسكو دولة قانون من خلال تبادل السجناء"، لافتاً إلى أن الخشية من أن تحذو دول أخرى مثل إيران وسوريا حذو روسيا وتستنسخ نموذج صفقة الرهائن الأخيرة، والمطلوب دبلوماسية بكثير من الصلابة. ونبه إلى الدور الذي تلعبه المجر التي تتولى الرئاسة الدورية للمجلس الأوروبي حتى نهاية 2024، وقرارها تحرير التأشيرات وتعاونها الوثيق مع روسيا، وإلى أن من المجدي اعتماد 3 إجراءات مصاحبة للصفقة: دعم أكبر لكييف وتشديد شروط التأشيرات وطرد المزيد من العملاء وإجراء مفاوضات بشأن حرب روسيا ضد أوكرانيا التي لا تزال مستمرة بلا هوادة.
وكان كيزهفتر قد كتب أخيراً على منصة "إكس" أن "روسيا الدولة الإرهابية تحاول الآن إرساء دبلوماسية الرهائن وجعلها نموذجاً تجارياً".
وانتقدت منظمة العفو الدولية الصفقة، معتبرة أن إطلاق سراح مجرمين محكومين مقابل أشخاص اعتقلوا لمجرد ممارستهم حقهم في حرية التعبير فقط، يشكل خطوة نحو توسيع نطاق الإفلات من العقاب.
وأمام ما تقدم، قال الباحث في الشؤون الأوروبية كاي مورشيلات لـ"النهار العربي"، إن هناك "استسلاماً للابتزاز الروسي وبعدما استخدم بوتين البرودة اللاإنسانية بحق أشخاص مسجونين تعسفياً وهو المتحرر من الروابط القانونية والقيم الأخلاقية. يقال إن بايدن ضغط على العديد من الحلفاء الأوروبيين للموافقة على صفقة التبادل والإفراج عن جواسيس روس مسجونين لديهم".
وعن إمكان انسحاب صفقة التبادل على وقف إطلاق النار في أوكرانيا، رأى مورشيلات أن بوتين لا يريد التفاوض إلا وفق شروط مسبقة وبالطبع هذا غير مقبول من كييف، كما أن موسكو تنتظر ما يمكنها أن تحققه مع تقدمها حالياً على الأرض، وانتظار ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
في المقابل، بررت الحكومة الألمانية المضي بصفقة التبادل بأنها حصلت وفقاً لاعتبارات تتعلق باهتمام الدولة بإنفاذ عقوبة السجن بحق المجرم المدان مقابل الحرية والسلامة البدنية لمواطنين مظلومين، وتحدث المستشار أولاف شولتس عن واجب حماية المواطنين الألمان المفرج عنهم، مشدداً على التضامن مع الولايات المتحدة، وعن أن قرار إطلاق سراح قاتل حكم عليه بالسجن المؤبد بعد بضع سنوات فقط من السجن لم يكن سهلاً، لكن مصلحة الدولة في تنفيذ عقوبة السجن يجب أن تتم موازنتها مع حرية أبرياء مسجونين في روسيا، وآخرين معتقلين ظلماً لأسباب سياسية".
ومن بين المفرج عنهم ناشط ومسعف ألماني من هيلدسهايم كان محكوماً عليه بالإعدام في بيلاروسيا بتهمة الإرهاب، وطالب يبلغ 18 عاماً يقال إنه قام بتصوير منشأة عسكرية، والباحث السياسي ديمتري.ف (45 عاماً)، ومواطن ألماني يدعى باتريك اعتُقل في مطار سان بطرسبورغ في شباط (فبراير) الماضي بتهمة تهريب المخدرات.