استخدمت القوات الأوكرانية في هجومها المباغت، الأسبوع الماضي، في منطقة كورسك داخل الأراضي الروسية ناقلات الجند المدرعة الألمانية من طراز "ماردر"، الأمر الذي أحدث صدمة للرئيس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأجهزة الكرملين مع ما تكبده الجيش الروسي هناك من خسائر فادحة. حتى أن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف هدد بالانتقام من برلين. هذا التطور استدعى تساؤلات سياسية في البلاد ونقاشات حول ما يسمح لأوكرانيا بأن تقدم عليه بموجب القانون الدولي عند الدفاع عن نفسها ضد روسيا، والدور الذي يمكن أن تلعبه الأسلحة الألمانية في ساحة المعركة.
بين الدعم ونقص الأموال
يبدو واضحاً أن الحكومة الألمانية ليس لديها أي اعتراض على إشراك الدبابات الألمانية في الهجوم، حتى أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الألمانية أفاد أخيراً بأن الهدف المعلن أساساً لحكومة "ائتلاف إشارات المرور" بزعامة الاشتراكي أولاف شولتس دعم أوكرانيا في معركتها الدفاعية ضد الهجوم الروسي.
في شرح الموقف، رأى الباحث في الشؤون الأوروبية توماس برغمان في حديث إلى "النهار العربي"، أن أعضاء الناتو وفي مقدمتهم ألمانيا اتفقوا في شهر أيار (مايو) على السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الغربية ضد مواقع ومنشآت عسكرية روسية، وعليه فإن الأسلحة والذخائر والدبابات وبينها "ماردر"، وبمجرد تسليمها إلى أوكرانيا باتت ملكاً للقوات المسلحة، ولها تحديد كيفية استخدمها في حربها ضد روسيا.
وفي السياق، وصف مسؤول السياسة الخارجية في الحزب المسيحي الديموقراطي رودريش كيزهفتر في حديث إلى إذاعة "آربي بي" الهجمات المضادة الأوكرانية عامةً بأنها مشروعة بموجب القانون الدولي، وبأن الأوكرانيين يحاولون إحباط الخطط الروسية وهذا الإجراء مشمول بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وبناءً عليه يسمح للجهة المعتدى عليها بالدفاع عن نفسها حتى على أراضي المعتدي.
وقال رئيس لجنة الدفاع ماركوس فابر المنتمي إلى الحزب الليبرالي الحر، إن لا مشكلة من حيث المبدأ في استخدام أوكرانيا الأسلحة التي زودتها بها ألمانيا، وانتقال الأسلحة إلى أوكرانيا هو للاستخدام من قبل قواتها المسلحة، وهذا ينطبق على كل المعدات وبينها ليوبارد2" و"ماردر" وغيرها، موضحاً أنه منذ الهجوم الروسي عام 2022 أصبحت أراضي الدولتين منطقة حرب.
وكانت ألمانيا قد حظرت على كييف مع بداية غزو أوكرانيا استخدام السلاح الألماني ضد الأراضي الروسية.
وعن التهديدات الروسية وتأكيد ميدفيديف أن الدبابات الروسية قادرة على الوصول إلى ساحة الرايخستاغ في برلين، قال الباحث السياسي والأمني في جامعة الجيش الألماني في ميونيخ كارلو ماسالا في مقابلات إعلامية، إنه لا يتوقع تصعيداً من موسكو ضد ألمانيا بسبب استخدام الأسلحة الألمانية في كورسك، والتي في رأيه يمكن أن تشمل بالتأكيد منطقة كورسك، مضيفاً أن بوتين سيعتبر ذلك إهانة، لكنه لن يقدم على أي إجراء.
في المقابل، دعت السياسية اليسارية سارة فاغنكنشت المستشار شولتس للتدخل لدى الرئيس زيلينسكي ومطالبته بعدم استخدام الأسلحة الألمانية في العمق الروسي، لأن استعانة أوكرانيا بدبابات "ماردر" في هجومها على الأراضي الروسية "تعد تطوراً خطير للغاية".
وأعرب السياسي المعني بالسياسة الخارجية في الحزب الإشتراكي رالف شتيغنر عن تحفظاته في ما يتعلق بالدفاع عن أوكرانيا، مشيراً إلى أنه كان هناك وضع استثنائي في المنطقة الحدودية ولا بد من الدفاع عن خاركيف حينها لأنها عاشت محنة كبيرة في صد الهجمات من خارج الحدود، وهذا لا يعني تغييراً في الاستراتيجية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأسلحة الموردة من ألمانيا.
وبين هذا وذاك، برز موقف لافت لرئيس وزراء ولاية سكسونيا ميشائيل كريتشمر دعا فيه إلى خفض مساعدات الأسلحة إلى أوكرانيا، وبحسب كرتشمر المنتمي إلى الحزب المسيحي الديموقراطي، فإن الأمر يتعلق بالموازنة ومن أجل توفير الأموال، ولم يعد بالإمكان منح أوكرانيا أموالاً لشراء الأسلحة. وأضاف في حديث إلى شبكة "آر أن دي" الإخبارية: "منذ البداية كان لدي رأي واضح ضد تسليم الأسلحة ودعوت إلى المبادرات الدبلوماسية"، مجدداً موقفه بأن الحرب لن تنتهي في ساحة المعركة، بل إلى طاولة المفاوضات.
ومنذ بدء الحرب سلمت ألمانيا أوكرانيا ما مجموعه 18 دبابة قتالية من طراز "ليوبارد 2"، إضافة إلى أنظمة دفاع جوي وطائرات من دون طيار، وكميات كبيرة من الصواريخ والأسلحة والذخائر الأخرى، فضلاً عن 120 ناقلة جنود مدرعة من نوع "ماردر"، كما 58 دبابة من طراز "ليوبارد1" بالتعاون مع الدنمارك.
تشكيك وخيارات صعبة للصمود
وعن المسار المستقبلي للحرب مع إعلان روسيا يوم السبت الماضي، كل من كورسك وبيلغورد وبريانسك الحدودية مناطق لعمليات مكافحة الإرهاب، وإعطاء الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو الأوامر بتعزيز القوات العسكرية عند الحدود مع دخول الطائرات من دون طيار الأوكرانية المجال الجوي لبلاده، كما وضع نظام الدفاع المضاد للطائرات والصواريخ البالستية من نوع "إسكندر"في حالة تأهب كامل، شكك الخبير في الشؤون الروسية ألكسندر دوبوفي بمنطقية الهجوم الأوكراني، معتبراً أن الوضع أضحى أكثر إرباكاً مع توسع حرب المعلومات، وبأن الأهداف الاستراتيجية لأوكرانيا غير واضحة وقواتها المسلحة تتحرك حالياً لتأمين فتوحاتها، ومثل هذه الهجمات معقدة ومكلفة للغاية من حيث عدد الأفراد.
وشدد على أن ما أقدمت عليه كييف ليس إلا مجرد لعبة حظ عالية المخاطر وستشوبها الكثير من الأخطاء. ومن زاوية أخرى، فإن الأمر سيتطلب من كييف أن تبقي على احتلال المناطق التي سقطت تحت سيطرتها لمدة شهرين أو ثلاثة على الأقل، في إشارة إلى أنه لا يمكن الحديث عن مفاوضات قبل موعد الانتخابات الأميركية.
وانسجاماً مع هذه التقديرات وإظهار الجيش الأوكراني نفسه أنه لا يزال قادراً على اتخاذ زمام المبادرة عسكرياً ومواصلة العمليات الهجومية، أشار الخبير العسكري ميك ريان في حديث إعلامي هذا الأسبوع إلى أن تعزيز الأوكرانيين مواقعهم التي سيطروا عليها حتى إجراء مفاوضات يعد الخيار الأكثر صعوبة لأن هناك أخطاراً كبيرة من فقدان أعداد كبيرة من القوات المسلحة نتيجة تكثيف روسيا هجماتها، لافتاً إلى أن هناك خياراً ثانياً متوسط الأخطار ويعتمد على الانسحاب الجزئي من المنطقة ليكونوا أكثر قابلية للدفاع، والهدف منه طبعاً الاستمرار في تهديد السيادة الروسية، كما يمنح زيلينسكي أيضاً بعض النفوذ في عملية التفاوض مستقبلاً. وليختم بأنه مما لا شك فيه بأن هناك خياراً ثالثاً أكثر فائدة من الناحية السياسية والاستراتيجية للعمل ضد روسيا مع الاحتفاظ بمجموعة من المقاتلين من ذوي الخبرة قادرة على الصمود والتصدي، وهذا الخيار مربك ومذل لبوتين، وفي الوقت نفسه يسمح لكييف بتوجيه رسالة استراتيجية إلى حلفائها ومفادها أنها قادرة على مواجهة الروس والدفاع عن أوروبا، ما سيمكنها من المطالبة أكثر بالدعم العسكري والموارد والأسلحة النوعية.