انطفأت الشعلة الأولمبية، وبقيت الأسئلة مُتّقدة: من المسؤول عن عملية التخريب المنسقة على سكك الحديد الوطنية في فرنسا؟ فرضية تورط روسيا تبقى قوية لكنها غير محسومة. العين مركزة على جهاز روسي يُعد الأقوى أو بين الأقوى عالمياً، لكن من يؤكد؟
...التحقيق متواصل الآن. السُبل تقطعت بملايين الركاب في باريس، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها. "الزاوية الروسية قوية جداً"... فما الأسباب خلف هذه الشكوك؟
أول الأسباب، ليس سراً، وهو اتخاذ الحكومة الفرنسية موقفاً "أكثر دعماً" لأوكرانيا. ثانيها، التظلمات الروسية ضد اللجنة الأولمبية الدولية، وقد مَنَعَت الرياضيين الروس من المنافسة في الألعاب هذا العام. إلى ما سبق، ثمة مؤشرات غير مرتبطة بفرنسا حصراً؛ فمنذ الأشهر الأولى من هذا العام، ربط مسؤولو الاستخبارات الأوروبية والأميركية سلسلة من العمليات التخريبية في جميع أنحاء أوروبا بجهاز الاستخبارات الروسي GRU. الهجمات هذه شملت الحرق العمد وأساليب أخرى. حدث هذا في أكثر من ست دول أوروبية، بما فيها: جمهورية التشيك، إستونيا، لاتفيا، ألمانيا، بولندا، السويد والمملكة المتحدة.
شواهد؟
في آذار (مارس) 2024، أضرمت النيران في مستودع مرتبط بأوكرانيا في ليتون، شرق لندن. الشرطة البريطانية اعتقلت أربعة أشخاص بتهم شملت التخطيط لهجوم متعمد ومساعدة الاستخبارات الروسية. وفي الشهر التالي، تعرضت منشأة في جنوب ويلز تابعة لشركة الدفاع والأمن والفضاء البريطانية BAE لانفجار واشتعلت فيها النيران. وفي نيسان (أبريل) أيضاً، ألقت السلطات الألمانية القبض على رجلين يحملان الجنسيتين الألمانية والروسية للاشتباه في قيامهما بالتخطيط لشن هجمات تخريبية على قاعدة عسكرية في بافاريا، واتهمت أحد المشتبه بهما بالاتصال بالاستخبارات الروسية. وفي أيار (مايو)، اعتقلت بولندا ثلاثة رجال - اثنان منهم من بيلاروسيا والآخر مواطن بولندي - لقيامهم بأعمال حرق وتخريب نيابة عن روسيا. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن شبكة cnn ذكرت في منتصف تموز (يوليو) أن الاستخبارات الأميركية والألمانية أحبطت مؤامرة دبرها عملاء روس لاغتيال أرمين بابيرجر، رئيس شركة تصنيع الأسلحة الألمانية الرائدة Rheinmetall، المورد الرئيس لقذائف المدفعية إلى أوكرانيا.
ماذا نعرف عن جهاز GRU؟
جهاز الاستخبارات الروسية GRU يُعتبر جهاز الاستخبارات العسكرية الخارجية في روسيا الاتحادية، كما يقول لـ"النهار العربي" رئيس المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في ألمانيا جاسم محمد . الجهاز يُعد أحد أقدم أجهزة الاستخبارات الروسية، ومضى عليه أكثر من 100 عام، وفي زمن الاتحاد السوفياتي السابق كان يُعتبر منافساً للـ"كيه جي بي".
جهاز الاستخبارات الخارجية العسكري يجمع ما بين قوات النخبة العسكرية التي تقوم عادة بتنفيذ مهمات خارج روسيا، بخاصة في مناطق النزاع والتوترات والحروب، وعمليات الأمن السيبراني، من خلال متابعة أجهزة الاستخبارات، كما يقول الخبير محمد. ربطُ هذا الجهاز بالجيش الروسي، ربما يُعبر حالة استثنائية أو سمة يتسم بها على خلاف بقية أجهزة الاستخبارات المعروفة حول العالم.
الشيء الأهم في هذا الجهاز - برأي جاسم محمد - أنه يجمع ما بين الخبرات السيبرانية بالقرصنة وإعداد الهجمات السيبرانية وكذلك التنسيق مع قوات النخبة لتنفيذ عمليات اغتيال، أو ربما عمليات تدخّل لزعزعة أمن بعض الدول أو المناطق التي ربما تتعارض مصالحها مع روسيا.
رأس الهرم
تنفيذ اغتيالات وعمليات تقوم بها قوات النخبة العسكرية خارج روسيا، يُعتبر أمراً خطراً إن ثبُت تورط روسيا به، ومن دون شك، له ارتدادات دبلوماسية. وقرار تنفيذ هذا النوع من العمليات يعود إلى رأس الهرم في روسيا، والقصد الرئيس الروسي وكذلك الكرملين المعني بإصدار هذا النوع من الموافقة لتنفيذ عمليات اغتيال أو تخريب خارج أراضيها. تالياً، هذه عملية خطرة جداً لا تقبل الخطأ، وهنا تكمن خطورة هذا الجهاز بتنفيذ عمليات من هذا النوع، ناهيك بأنه هو أيضاً المعني بتنفيذ عملات سيبرانية تستهدف الكثير من الحملات الانتخابية والبنى التحتية.
فرنسا قصة أخرى
تخريب سكك الحديد في فرنسا، برأي جاسم محمد، عمل منظّم؛ فعملية تنفيذ مثل هذا النوع من العمليات كان منسقاً وذكياً جداً، رغم أن العملية بسيطة وتقليدية، لكن تنفيذها في أكثر من ثلاثة أو أربعة مواقع والحصول على النقاط المهمة التي يمكن أن تعرض سكك الحديد إلى التوقف إضافة إلى ضرب الكابلات، هذه جميعها نقول إنها عملية ذكية.
في مثل هذا النوع من العمليات، كانت الاتهامات توجه إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار، ولكن وجّه بعض الفرضيات الاتهام إلى روسيا، لماذا روسيا؟
يقول جاسم محمد لـ"النهار العربي" إنه ضمن العمليات الاستخبارية نبحث عن المستفيد أولاً؛ ففي ظل حرب أوكرانيا من المُرجح، ومن غير المستبعد، أن تستفيد روسيا من زعزعة الأمن في فرنسا وفي دول الاتحاد الأوروبي، لكن - ببعض المهنية - نحن نحتاج للكثير من الحقائق والشواهد، وكان يفترض بالاستخبارات والأمن الفرنسي أن يعرضا الشواهد ونتائج التحقيقات... وربما تكون الاستخبارات الفرنسية حصلت على الشواهد هذه لكنها لا تريد أن تظهر الحقائق لحسابات أمنية أو جيو-سياسية.
مع بداية الحرب الباردة، وضعت وكالتا التجسس السوفياتيتان الـ"كي جي بي" ووحدة الاستخبارات العسكرية GRU، خططاً جديدة لعمليات التخريب في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. في الخمسينات من القرن الماضي، بدأ السوفيات في زرع مخابئ المتفجرات والأسلحة الشديدة الانفجار في جميع أنحاء أوروبا الغربية، وفي الولايات المتحدة، لهذا الغرض، كما تقول "فورين أفيرز" في تحقيق لها، لكن لم يكن من المقرر استخدامها إلا في حالة ما أطلق عليه السوفيات "الفترة الخاصة"، وهو تعبير ملطف للحرب الشاملة مع الغرب.
ومع بداية الحرب الباردة، كان لدى وكالات الاستخبارات السوفياتية الكثير من الموارد المتاحة لهذا النهج على وجه التحديد. بعد الحرب العالمية الثانية، قامت الاستخبارات العسكرية السوفياتية بتجنيد العديد من العملاء ذوي الخبرة الطويلة في أعمال التخريب.
في العقود الأخيرة من الحرب الباردة، وعلى رغم أن السوفيات تجنبوا استخدام التخريب، إلا أنهم أدركوا مدى فعالية الهجمات، كما تقول "فورين أفيرز"، مشيرة إلى أن الروس احتفظوا بالخيار في الاحتياط. وستكون هذه الخبرة حاسمة بالنسبة إلى بوتين عندما بدأ حربه الأوسع ضد الغرب في عام 2014، وبخاصة بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
فشل الاستخبارات الروسية في توقع الرد الأوكراني والغربي في الحرب ضد أوكرانيا، أدى، بحسب "فورين أفيرز"، إلى وضع هذه الأنشطة الاستخباراتية الهجينة في حالة من الفوضى موقتاً. لفترة من الوقت، كافحت الاستخبارات العسكرية الروسية لاستعادة مكانتها، ولكن مع تطور الحرب في أوكرانيا بسرعة إلى حرب تجسس أوسع نطاقاً ضد الغرب، أعادت أجهزة الاستخبارات والأمن الروسية تنظيم صفوفها بسرعة.
كيف يرد الغرب؟
حتى الآن، لم تعد وكالات التجسس الغربية قادرة على ادعاء جهلها بحملة التخريب الروسية. وبدأ المسؤولون في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، بحسب "فورين أفيرز" إطلاق ناقوس الخطر. مع ذلك، فإن استراتيجية التخريب التي ينتهجها بوتين وضعت الغرب في موقف صعب. ونظراً إلى الجهود الغربية لتجنب الصراع المباشر مع روسيا، فإن القادة الغربيين يترددون في الدعوة إلى رد عسكري أكبر على هذه الهجمات، ما قد يؤدي إلى تصعيد لا يمكن احتواؤه.