النهار

حرب أوكرانيا محطة من تاريخ موسكو في الحروب... والحرائق
باسل العريضي
المصدر: "النهار"
في السادس من الجاري، فاجأت القوات الأوكرانية الجيش الروسي بتقدم سريع داخل منطقة كورسك، وبحسب تقارير صحافية فإن حرس الحدود الروس أطلقوا ناقوس الخطر بأن الوحدات الأوكرانية كانت تتجمع بالقرب من الحدود، "لكن القادة الروس لم يعتقدوا أن أوكرانيا التي تتعرض لضغط كبير على طول خط المواجهة في دونباس، لديها القوة البشرية اللازمة لشن عملية من هذا النوع"، بحسب باتريك بيري المحلل لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الحرب ومكافحة الإرهاب.
حرب أوكرانيا محطة من تاريخ موسكو في الحروب... والحرائق
دبابة أوكرانية قرب الحدود الروسية (أ ف ب)
A+   A-

في السادس من الجاري، فاجأت القوات الأوكرانية الجيش الروسي بتقدم سريع داخل منطقة كورسك، وبحسب تقارير صحافية فإن حرس الحدود الروس أطلقوا ناقوس الخطر بأن الوحدات الأوكرانية كانت تتجمع بالقرب من الحدود، "لكن القادة الروس لم يعتقدوا أن أوكرانيا التي تتعرض لضغط كبير على طول خط المواجهة في دونباس، لديها القوة البشرية اللازمة لشن عملية من هذا النوع"، بحسب باتريك بيري المحلل لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الحرب ومكافحة الإرهاب.

أحد أهداف الهجوم الأوكراني المعلنة، تحويل تدفق قوات الاحتياط الروسية لحماية أراضيها، بدل إرسالها إلى جبهات القتال داخل أوكرانيا. لكن ما حدث هو أن الجبهة الشرقية شهدت أعنف المعارك منذ أسابيع، وقال المتحدث العسكري الأوكراني دميترو ليخوفي إن روسيا "لم تنفذ عمليات تشكل إعادة انتشار كبيرة في الوقت الحالي"، ونقلت "رويترز" عن ضابط في الجيش الأوكراني قوله إن "الضغط الروسي لا ينقطع في منطقة دونيتسك المحتلة جزئيا وتركز روسيا عليها هجماتها منذ أشهر".

الهجوم المعاكس لم ينجح بتحقيق هدفه حتى الآن على الأقل، على الرغم من أن المناطق التي سيطر عليها الجيش الأوكراني والتي تقدر بأكثر من ألف كيلومتر مربع، هي أكبر مساحة من الأراضي الروسية تحتلها دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية. وفي مقابلة صحافية قال نيكولاي باتروشيف، أحد مساعدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة وحلف "الناتو" ضالعان بشكل مباشر في التخطيط لهجوم أوكرانيا على منطقة كورسك الروسية.

ونشرت وزارة الدفاع الروسية لقطات تظهر أسلحة أميركية في كورسك الروسية، كما أشار الباحث في الشأن الروسي صامويل روماني أن "لواء الهجوم الجوي 82 التابع للجيش الأوكراني يستخدم دبابات تشالنجر-2 البريطانية" وأن 14 دبابة منها سلمت إلى أوكرانيا في كانون الثاني (يناير) 2023، ويشير في منشور له على تويتر أنه "من غير الواضح عدد الدبابات التي تم نقلها إلى الجبهة الروسية".

 

التاريخ يعيد نفسه؟

في العالم الجيوسياسي، الجغرافيا تفرض نفسها وطبيعة معاركها، وتترك للقادة كتابة التاريخ، لذلك نرى أن "التاريخ يعيد نفسه"، خصوصاً عند الأمم التي تحفل "سيرتها الذاتية" بلائحة طويلة من الصراعات والحروب مثل منطقة أوراسيا.

ولحصر الموضوع في الإطار الروسي، من المفيد إجراء بعض المقارانات حيث شهدت موسكو ضمن حقبات تاريخية حروباً عدة انتصرت في بعض منها وانهزمت في أخرى.

في القرن الثالث عشر، وتحديداً عام 1238 وقبل أن تكون موسكو عاصمة للروس، تعرضت لحصار من قبل جحافل المغول والتتار، الذين بدأوا بغزو الأراضي الروسية قبل ذلك بعام، بما يقارب من 200 ألف مقاتل بقيادة باتو خان أحد أحفاد جنكيس خان، وسيطروا على شرق أوروبا ومن ضمنها مدينة كييف. وعلى الرغم من صمود أهل موسكو وشنهم لهجوم مضاد، إلّا أنهم لم يتمكنوا من صدّ المغول وانهارت دفاعاتهم في غضون أيام قليلة، فدخل المغول المدينة وأحرقوا ما تبقى منها وقاموا بسلسلة إعدامات، بعد إعطاء وعد للسكان بالحفاظ على حياتهم في حال الاستسلام.

وبقي الروس يقاومون لأكثر من قرن من الزمن، وفي عام 1380 تمكن أمير موسكو دميتري دونسكي من دحر المغول في معركة كوليكوفو، التي أصبحت نقطة تحوّل في التاريخ الروسي، وأكدت تلك المعركة على دور إمارة موسكو بصفتها منظماً ومركزاً لدمج الأراضي الروسية، وبحسب مراجع تاريخية فقد كان للكنيسة الروسية الأرثوذكسية دور هام في تحقيق الوحدة الروسية.

وفي القرن السادس عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية قد وضعت "خانية القرم" وهي مناطق واسعة تمتد إلى شمال شرق شبه جزيرة القرم، تحت وصايتها وحمايتها. وفي تلك الفترة كانت روسيا تخوض حرباً مع السويديين والبولنديين والليتوانيين أو ما يعرف بحرب "الليفونية"، وكانت معظم القوات الروسية متمركزة في منطقة البلطيق، ما دفع بخان القرم دولت كراي الأول، إلى استغلال الانشغال الروسي وهاجم موسكو عام 1571 وعمد إلى حرق القرى والمناطق المحيطة بها، وسرعان ما امتدت النيران إليها وخلّفت بحسب تقديرات المؤرخ هانيبال ترافس أكثر من 60 ألف قتيل. وعادت القوات المهاجمة إلى الانسحاب تحسباً من عودة القوات الروسية المرابطة في البلطيق، وطلب من العثمانيين مساندته لاحتلال موسكو فكانت معركة مولودي قرب موسكو عام 1572 وفيها تقهقرت القوات المهاجمة متكبدة خسائر فادحة على الرغم من تفوقها العددي بما يقارب الضعف.

 

الجنرال الأبيض

وفي القرن التاسع عشر، دارت إحدى أشهر المعارك التي لايزال ذكرها حاضراً حتى يومنا هذا، عندما قرر الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت مهاجمة الأراضي الروسية وبدأ بخوض معركة تلو الأخرى لكنه لم يستطع القضاء على الجيش الروسي بالكامل، الذي تراجع وراء موسكو، فدخلها نابليون عام 1812، لكن الروس قبل انسحابهم أضرموا النيران فيها. وأمل القائد الفرنسي أن دخول المدينة سيدفع بالقيصر الروسي إلى إجراء محادثات سلام، غير أن هذا لم يحدث. وبعد شهر من هذه الحادثة، انسحب الجيش الفرنسي من موسكو بعد أن وصلت أنباء عن اضطرابات داخل فرنسا، وخلال عملية الانسحاب تعرض جيش بونابرت لبرد قارس وفتكت به الأمراض والجوع، إذ أن الروس أحرقوا كل شيء تقريباً حتى لا يستفيد منه الغزاة، وفي المحصلة لم يسلم من الجيش سوى 40 ألف جندي من أصل 400 ألف.

الأمر نفسه تكرر مع الرايخ الثالث في حربه مع الاتحاد السوفياتي، فكانت عملية برباروسا في حزيران (يونيو) 1941 نقطة تحوّل في الحرب العالمية الثانية، والتي ساهمت في هزيمة ألمانيا النازية بعد معارك ستالينغراد والتي لعب فيها شتاء روسيا دوراً أساسياً في الهزيمة، حتى أن بعض المؤرخين لتلك الحقبة أطلقوا اسم "الجنرال الأبيض" على ذلك الشتاء القاسي لتسببه بموت أعداد كبيرة من الجنود الألمان وتعطيل حركة آلياتهم.

 

عود الثقاب

ما سبق هو جزء من حروب كثيرة خاضتها روسيا، وبالعودة إلى الحرب الروسية الأوكرانية، فهل يكون الهجوم على كورسك، بمثابة "معركة الثغرة" التي كانت آخر المعارك التي خاضها النازيون أواخر الحرب العالمية الثانية؟ أم أنها ستكون كما أعلن المستشار الرئاسي الأوكراني ميخايلو بودولياك، ضرورية لإقناع موسكو ببدء "محادثات سلام عادلة"، وأن بلاده لا تسعى لاحتلال كورسك ولكن "يتعين عليها إجبار روسيا على بدء المحادثات بشروط كييف".  

الوقت وحده من يحسم الإجابة، لكن ربما من المفيد التوقف عند ما يقوله أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد جوزف ناي، في مقالة له في تشرين الأول (اكتوبر) 2022 يشرح فيها رؤيته لأسباب الحرب في أوكرانيا، وفيها يستعرض تاريخ العلاقات الروسية مع الغرب لاسيما بعد الحرب الباردة، ويختم بالقول "إن هذه الحرب لم تكن حتمية، أما وقد باتت كذلك، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخطأ التقدير وأشعل عود الثقاب الذي أضرم النار، ومن الصعب أن نتوقع منه أن يخمدها بنفسه".

 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium