تقدم مقابل تقدم مضاد، الجيش الأوكراني أعلن عن سيطرته على نحو 1250 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الروسية في إقليم كورسك. وهو قام بتدمير الجسور الثلاثة، فوق نهر السيم، التي تربط المنطقة بالداخل الروسي، بهدف عرقلة وصول التعزيزات الروسية. وعليه فإن الوحدات الروسية ستعتمد على الجانب الجنوبي من النهر، مع استخدام الجسور العائمة، التي بدورها تتعرض لهجمات الأوكرانية.
على الجبهة الشرقية الأوكرانية، لايزال الجيش الروسي يحرز تقدماً تلو الآخر، وإن بشكل بطيء، إذ أعلن السيطرة على مدينة نيويورك، التي تعدّ أكبر بلدات منطقة توريتسك، ووصفتها القوات الروسية بأنها مركز لوجستي يمتلك أهمية استراتيجية في منطقة دونيتسك.
المدينة الجديدة
لهذه المدينة قصصها مع روسيا منذ تأسيسها، فقد حملت البلدة اسم نيويورك حتى العام 1951، حين أطلقت عليها السلطات السوفياتية إبان الحرب الباردة اسم "نوفغورودسكوي"، قبل أن تستعيد اسمها السابق في صيف 2021 تحت ضغط ناشطين أوكرانيين.
أصل التسمية لايزال غامضاً، وثمة العديد من النظريات حوله، لكن المؤكد أنها تأسست في نهاية القرن الثامن عشر، عندما أكملت "كاثرين العظيمة" الغزو الروسي للمنطقة، وأمرت ببناء مدن جديدة وأسست محافظة نوفوروسيا. ودعت حلفاءها المستوطنين الألمان، والمرتزقة من البلقان للاستقرار في المنطقة من أجل تأمين خطوط الإمبراطورية. وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر تطورت المنطقة صناعياً خصوصاً مع إنشاء سكك الحديد.
وفي عام 1916، تم اختيار مدينة نيويورك لاستضافة مصنع جديد لإنتاج "النفتالين"، وعلى الرغم من الثورة البلشفية بقي المصنع يعمل، لكن واقع المدينة تغير مع إعلان الحرب بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، وعلى الأثر طُرد الألمان من المدينة.
وفي عام 1951 أمرت السلطات العليا في الاتحاد السوفياتي بتغيير اسم المدينة إلى "نوفغورودسكوي" والتي تعني المدينة الجديدة. وفي الحقبة السوفياتية أكملت المدينة مسارها الاقتصادي حيث جرى إنشاء مصانع جديدة، لتشهد بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي مرحلة من الركود.
العودة إلى نيويورك
عقب التوترات بين أوكرانيا وروسيا وضمّ شبه جزيرة القرم، والاشتباكات المسلحة في منطقة الدونباس، تعهدت السلطات المحلية بالعمل على إعادة الاسم التاريخي للمنطقة، في إطار موجة تغيير الأسماء بموجب قوانين "إلغاء المظاهر الشيوعية" على مستوى البلاد لعام 2015. وحصل ذلك في شباط (فبراير) 2021 بمصادقة من البرلمان الأوكراني. والخطوة لاقت ترحيباً من قبل الولايات المتحدة التي اعتبرتها دليلاً على العلاقة الوثيقة بين البلدين.
وسيطرة روسيا على هذه المدينة، يعني عملياً فتح الباب أمام مكاسب محتملة مهمة استراتيجياً، لوجودها على خط السكك الحديدية المؤدية إلى سلوفيانسك، إحدى مدن دونيتسك التي تسعى موسكو منذ فترة طويلة للسيطرة عليها. كما يُمكن أن تسمح للقوات الروسية بالاقتراب من قطع طريق بوكروفسك - كوستيانتينيفكا السريع الذي يزوّد الجيش الأوكراني في الشرق بالإمدادات.
وهذا ما أكدته كييف، من أن قواتها تتعرض لهجوم روسي عنيف في شرق أوكرانيا، وقال الجيش الأوكراني إنه يتعرض "لهجمات روسية متعددة على جبهتي توريتسك وبوكروفسك" في شرق البلاد.
راسبوتيتسا
وربطاً بين هجمات الطرفين، فقد أشار معهد دراسة الحرب (ISW) في أحدث تقييم له، إلى أن القوات الروسية أعادت على الأرجح نشر أكثر من 5 آلاف جندي في كورسك لمواجهة القوات الأوكرانية، وأن القتال في المستقبل داخل روسيا سوف يتطلب المزيد من القوى البشرية الروسية والالتزامات المادية في المنطقة.
مقابل هذه النظرية، فإن بعض المحللين العسكريين يقولون إن كييف خاطرت بسحب بعض وحداتها القتالية الأكثر فعالية بعيداً عن الدفاع عن خطوط المواجهة في شرق أوكرانيا، حيث تواصل روسيا تقدمها. ويستحضرالمدير الأكاديمي لمؤسسة البحر الأبيض المتوسّط للدراسات الاستراتيجية بيير رازو، الكلمة الأوكرانية الشهيرة راسبوتيتسا (Raspoutitsa) أو "زمن الطرق السيئة" الذي سيجعل الأرض غير قابلة للعبور في الخريف، مشيراً إلى أن الشتاء سيكون "كابوساً" للمركبات المدرّعة ذات العجلات. ويضيف لوكالة فرانس برس أنّ موسكو "قد ترغب في السماح" للقوات الأوكرانية بالتقدّم، ثمّ تحاول تطويقها، "وسيتمّ بعد ذلك تحييد الاحتياطي الاستراتيجي لأوكرانيا".
مجلة "الإيكونوميست" أجرت مقابلات مع جنود أوكران ومصادر مطلعة على عملية صنع القرار التي يقوم بها القائد العام لأوكرانيا الجنرال أوليكساندر سيرسكي، داخل إقليم كورسك، وتقول إن "الصورة تظهر مقامرة جريئة ولدت من اليأس وفي سرية تامة". وأن كييف طورت تكتيكات جديدة فعالة. ولكن بعد أيام على القتال "من غير الواضح ما إذا كانت القوات قادرة على التمسك بالجبهات أم أنها مفرطة في الالتزام على حساب خطوط المواجهة في أماكن أخرى". وأشارت "الإيكونوميست" إلى أن "الخطر الأكبر يكمن حول بوكروفسك، في دونباس داخل أوكرانيا حيث تكتسب قوات الكرملين الأرض بسرعة".
وبعد أسبوعين على الهجوم الأوكراني، فقدت القوات المهاجمة جزءاً من "قوة الدفع" بعد تعزيز الجيش الروسي مواقعه، والعمل على آلية تنسيق جديدة وأكثر فعالية، بحسب وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف الذي أعلن عن إنشاء "هيئة تنسيق جديدة بدأت بالفعل العمل على مدار الساعة للتنسيق بين السلطات الإقليمية وقادة القوات ووزارة الدفاع".
وهذا ما عبّر عنه أحد الجنود الأوكران من الفرقة 80 في حديثة لمجلة "الإيكونوميست" من أن القوات الأوكرانية داخل روسيا أكثر ضعفاً ولكنها لا تزال تتحدى، وأن الروس "اكتشفوا كيفية القتال وهم يفهمون تكتيكاتنا. لكن هذا لا يعني أننا لا نفهم تكتيكاتهم أو أننا لن نستمر في القضاء عليهم".
وفي مطلق الأحوال فإن الهجمات المتبادلة، والدخول الروسي إلى "نيويورك" تحت المسمى السوفياتي "نوفغورودسكوي" ليست سوى دليل آخر على أن الحرب الحالية لا يمكن فصلها عن التاريخ الطويل من الصراع.