بعد مضي أكثر من 6 سنوات على زيارته الأخيرة، وبالتزامن مع الهجوم الأوكراني المفاجئ على كورسك ونقل المعركة إلى داخل الحدود الروسية، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العاصمة الأذرية بزيارة دولة، تعدّ تاريخية ببروتوكولاتها وتفاصيلها.
يسعى بوتين إلى استعادة الدور الروسي في جنوب القوقاز، وسط المحاولات الغربية المتتالية لإضعاف نفوذ موسكو في حديقتها الخلفية تاريخياً، فيما ترى باكو في علاقتها الاستراتيجية مع موسكو أداة رئيسية لتحقيق التوازن الإقليمي، خصوصاً مع تركيا التي تعاظم نفوذها في المنطقة منذ حرب كاراباخ الثانية.
استقبال متواضع
استقبلت باكو سيّد الكرملين بحفاوة غاب عنها الثقل البروتوكولي. سار بوتين على السجادة الخضراء في المطار نحو مستقبليه مساعدي رئيس الوزراء ووزير الخارجية والسفير الأذربيجاني في موسكو، وسط غياب رئيس الدولة، في مشهد نادر الحدوث في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
في المقابل، حرص الرئيس الأذري إلهام علييف، الذي استقبل بوتين في منزله الشخصي، على إعطاء صورة تحمل الكثير من الحميمية والندّية في الوقت ذاته، إلى جانب زوجته التي تشغل بشكل رسمي منصب نائب رئيس الجمهورية.
ويرى كريم هاس، الخبير في السياسات الروسية والتركية، أن "بوتين استُقبِل بمستوى تمثيلي يمكن وصفه بالمتواضع، فغياب علييف عن الاستقبال في المطار، أو حتى رئيس الوزراء أو وزير الخارجية، يشير إلى رسالة أذربيجانية مفادها الندّية".
ويضيف استاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو لـ"النهار العربي": "ذهب بوتين مباشرة إلى مقر إقامة علييف حيث جرت المحادثات، ما يعزز فكرة أن علييف يرى نفسه رئيساً مهمّاً، وإن لم يكن زعيماً عالمياً بمستوى بوتين، لكنه لم يعد مضطراً لاستقبال الأخير في المطار".
باختلاف بروتوكولي عن الزيارات السابقة، زار الرئيس الروسي ضريح الرئيس الأذري السابق ووالد الرئيس الحالي، حيدر علييف، رجل الاستخبارات السوفياتي الأعلى رتبة من بوتين في المؤسسة الأمنية، ووضع إكليلاً على "ممشى الشهداء" الذي يحتضن رفاة القتلى الأذربيجانيين برصاص الجيش السوفياتي خلال تظاهرات "كانون الثاني الأسود" في عام 1990، ولاحقاً قتلى حرب كاراباخ.
أما أكثر الاختلافات لفتاً للانتباه، فتمثّلت في اصطفاف الوزراء الروس كما نظرائهم الأذريين، في إشارة إلى كون العلاقات الثنائية متساوية في الثقل والتمثيل الديبلوماسي.
يقول هاس: "كان التوجّه العام في باكو نحو الحفاظ على مستوى منخفض للاستقبال لإيصال رسالة ندّية، مع تقصّد عدم ظهور علييف في موقف أقل شأناً من بوتين. الاتفاقيات التي تمّ توقيعها، وعددها 7 مذكرات تفاهم، كانت ذات أهمية منخفضة نسبياً، ولا تتطلّب حضور كل هؤلاء الوزراء، لكن حضورهم يعكس محاولة أذربيجان للتعامل بندّية مع روسيا، ويمكن القول إنها نجحت في ذلك إلى حدّ كبير".
أذربيجان تُوازن علاقاتها
نجحت أذربيجان في تطوير علاقاتها مع الغرب من دون مواجهة روسيا أو الصدام معها، في سياسة توازنات حسّاسة جمعت بين روسيا وبريطانيا وإسرائيل وإيران وتركيا على أرضية المصالح والمنفعة المتبادلة.
يلعب علييف، خريج الكلية الديبلوماسية الروسية، ومستشاروه ووزراؤه ذوو الخلفيات التعليمية والثقافية والاستخباراتية السوفياتية، ومنهم على سبيل المثال السفير الأذربيجاني في موسكو بولاد بلبل أوغلو، مغني الأوبرا السوفياتي الشهير والمواصل لمهامه منذ عام 2006، دوراً كبيراً في تعزيز العلاقات الأذرية - الروسية بالاستناد إلى الخبرة والمعرفة بمنظومة الكرملين والرئيس بوتين.
خلال لقائه الرئيس الروسي، تحدث علييف بفخر عن وجود 324 مدرسة تقدّم التعليم باللغة الروسية لـ 160 ألف طالب أذري، إضافة إلى تعلّم أكثر من 800 ألف طالب للغة الروسية كلغة ثانية، ووجود أقسام روسية في 26 جامعة يدرس فيها أكثر من 15 ألف طالب أذربيجاني، ليبادره الرئيس الروسي هذه اللفتة معبّراً عن تقدير اهتمام نظيره باللغة الروسية، ومعلناً في الوقت ذاته عن إنشاء الجامعة الروسية - الأذرية في باكو.
وواصلت باكو شراء الأسلحة الروسية، ومنح موسكو حصّة في مشاريع الطاقة الخاصة بها، والتي تستحوذ شركة "بي بي" البريطانية الحصة الأكبر منها. يقول هاس: "باكو تدير بنجاح عملية التوازن بين مصالحها ومصالح موسكو. وتعرف جيداً أن عدم منح روسيا حصة يمكن أن يسبب لها المشاكل، وهو استنتاج صحيح في منطقة جنوب القوقاز. إذا خصصت باكو جميع مشاريع الطاقة لشركات غربية، فقد تورّط نفسها في مشاكل مع روسيا، وإذا اعتمدت بشكل كبير على إسرائيل أو الغرب في شراء الأسلحة، فقد تواجه ضغوطاً من روسيا. وبالمثل، إذا منحت روسيا السيطرة على مشاريع الطاقة، فقد تواجه ردود فعل من بريطانيا أو أميركا. لذلك، تحاول أذربيجان الحفاظ على هذا التوازن".
يتّبع علييف سياسة خارجية متعددة الأقطاب من دون الاقتراب من خطوط الحساسية الروسية، على عكس ما فعلته دول أخرى مثل أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وأرمينيا مؤخّراً. وأدّى نجاح سياسة باكو من هذا المنظور الإقليمي في تمكين سيطرتها بشكل كامل على كاراباخ في أيلول (سبتمبر) 2023، حاصلة على تأييد الأضداد من روسيا إلى الدول الغربية ومن تركيا وإيران وباكستان إلى إسرائيل.
يشرح هاس هذا التوازن بين الشرق والغرب بالإشارة إلى مسقط رأس أبناء علييف الثلاثة "حيث ولدت ابنته البكر في روسيا والثانية في باكو، بينما ولد ابنه الوحيد في لندن".
خروج من تحت المظلّة التركية
في مستهل تهديداته لإسرائيل، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال كلمة له أمام مناصريه في مسقط رأسه ريزا: "تماماً كما دخلنا كاراباخ، يمكننا دخول فلسطين أيضاً".
ردّت صحيفة "أذربيجان"، التابعة للبرلمان الأذري، على أردوغان بمقال افتتاحي جاء فيه: "لقد دفعنا ثمن كل رصاصة حصلنا عليها.. لا ينبغي أن تتحول رابطة الأخوّة إلى مباراة انتصار لجهة واحدة".
تحاول أذربيجان الخروج من دائرة النفوذ والتأثير التركي، لذا تسعى إلى تطوير تحالفها مع روسيا التي لن تتنازل عن جنوب القوقاز بأي ثمن.
وفشلت محادثات السلام بين أذربيجان وأرمينيا في إحراز تقدّم ملحوظ، رغم حصول باكو على مطالبها الجغرافية. وتضغط أرمينيا في اتجاه حلّ من خلال مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فيما تطالب أذربيجان بحلّ هذه المجموعة التي تضمّ إلى جانب روسيا كلاً من فرنسا والولايات المتحدة، في نقطة التقاء مع بوتين الساعي إلى رعاية المحادثات بين البلدين منفرداً كما حصل في اتّفاق موسكو في عام 2020.
ورغم الدور التركي المحوري في انتصار أذربيجان على أرمينيا في حرب كاراباخ الثانية، فإن الموقف الروسي الحاسم والرغبة الأذربيجانية منعا أنقرة من التواجد على طاولة المفاوضات، مكتفية بدور ميداني من خلال إنشاء نقطة مراقبة عسكرية لها في أراضي الإقليم الذي بات مهجوراً اليوم.
يرفض علييف، الذي يعتمد في الداخل خطاباً حماسياً صادراً عن "زعيم وطني محرّر للأراضي المحتلة"، الإشارة إلى أي دور تركي أو باكستاني أو إسرائيلي في انتصاره، مسدّداً ثمن مساندة الحلفاء في الحرب عبر منتجات الطاقة التي لا تزال تُصدّر إلى تل أبيب عبر الموانئ التركية، ومشاريع بنى تحتية حصلت عليها شركات تركية مقرّبة من الرئيس أردوغان.
الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أذربيجان
في المقابل، ومع تراجع النفوذ الروسي في أرمينيا، تسعى موسكو إلى الحفاظ على قوّتها ووجودها في المنطقة من خلال علاقاتها مع أذربيجان، خصوصاً بعد ردم أهم بؤر التوتر بين الجانبين من خلال حلّ مسألة كاراباخ بالشكل والطريقة التي ترضي باكو، ووفق رغبتها، في وقت يتزايد الاحتياج الروسي لأذربيجان في ظل الحرب الأوكرانية والحصار الغربي للاقتصاد الروسي.
ومن خلال تحالفها مع أذربيجان، تركّز موسكو على آلية خلط الغاز الروسي بالغاز الأذربيجاني وبيعه للأسواق الأوروبية، سواء من خلال البيع بشكل مباشر أو الاعتماد على الغاز الروسي للاستهلاك المحلي في أذربيجان مقابل زيادة صادراتها من الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا.
كما تولي روسيا ممر النقل بين الشمال والجنوب أهمّية بالغة، والذي قال بوتين إنّه "سيسمح لنا بالوصول إلى شواطئ المحيط الهندي".
إضافة إلى ذلك، أعلن الجانبان عن خطة لنقل النفط والغاز الطبيعي من بحر قزوين إلى البحر الأسود، من خلال ناقلات حديثة سيتمّ بناؤها من قبل حوض بناء السفن في باكو، بمشاركة سوكار، والشركة الروسية المتحدة لبناء السفن، ليحلّ محلّ الأسطول السوفياتي. وتربط قناة فولغا - دون، حيث سيتمّ استخدام هذه الناقلات، بحر قزوين بالبحر الأسود عبر بحر آزوف، حيث تمّ افتتاح القناة في عام 1952.
تبدو العلاقات الروسية- الأذربيجانية الآن أكثر براغماتية وتركّز على المصالح المشتركة، فهي تساهم في استعادة بوتين للدور الروسي في جنوب القوقاز، بعد خسارته موقعه في أرمينيا، فيما تعتبر أداة فعّالة بالنسبة إلى باكو في تحقيق التوازن مع تركيا وإيران وحتى الغرب الأطلسي، لتكون الدولة الثانية مع تركيا، التي تحتفظ بعلاقات عسكرية وتجارية وثيقة مع روسيا والغرب في آن واحد.