في آذار (مارس) 2023، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة "ترحيل غير قانوني لأطفال أوكرانيين"، وهو الأمر الذي نفاه الكرملين بشدّة.
غير أن الرئيس الروسيّ تحدى هذا القرار وتوجه يوم الإثنين إلى منغوليا، لتكون أول زيارة له إلى دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية منذ إصدار مذكرة الاعتقال. وهو حرص طوال هذه الفترة على تجنب السفر إلى دول أعضاء في المحكمة، ولهذا السبب تغيّب عن قمة مجموعة "بريكس" في جنوب أفريقيا في آب (أغسطس) 2023، ثم عن قمة مجموعة العشرين في الهند في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، على الرغم من العلاقة الوثيقة مع هاتين الدولتين.
زيارة منغوليا تأتي بناء على دعوة من الرئيس المنغولي أوخنا خوريلسوخ، للمشاركة في الاحتفالات بالذكرى 85 للانتصار المشترك للقوات المسلحة السوفياتية والمنغولية على اليابان في معركة خالخين غول.
ودعت المحكمة الجنائية الدولية والسلطات الأوكرانية منغوليا إلى توقيف بوتين، وصرّح المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية فادي العبدالله أنه "على غرار دول أخرى وقّعت نظام روما الأساسي الذي نصّ على قيام المحكمة، من واجب منغوليا التعاون".
نظرياً الدولة العضو في المحكمة الجنائية الدولية ملزمة توقيف بوتين عندما يطأ أراضيها، لكن هذا الأمر لم يثر مخاوف الجانب الروسي، إذ أكدت الرئاسة الروسية أن مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق بوتين "لا تثير قلقها". وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف "لدينا حوار ممتاز مع أصدقائنا في منغوليا" وتمّ التحضير "بعناية لجميع جوانب الزيارة".
وحين لا يفي بلد ما بالتزاماته حيال المحكمة الجنائية الدولية، تستطيع الأخيرة إحالة المسألة على جمعية الدول الأعضاء التي تجتمع مرة واحدة سنوياً، لكن أي عقوبات محتملة تصدر عنها لا تتجاوز سقف التوبيخ الكلامي. وسبق أن زار أفراد آخرون دولاً وقعت نظام روما من دون أي قلق، على غرار زيارة الرئيس السوداني السابق عمر البشير جنوب أفريقيا.
وهناك رأي آخر، فبالنسبة إلى الباحث في "معهد الدراسات القانونية" تاماس هوفمان، من المؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية "ستلاحق منغوليا قضائياً لخرقها واجب التعاون". لكنه يستطرد في حديثه إلى صحيفة "بوليتيكو" أن المحكمة الجنائية قد تقرر بعد ذلك إحالة القضية إلى جمعية الدول الأعضاء "التي قد تدين انتهاك منغوليا بموجب ما يسمى بإجراء عدم الامتثال. ومع ذلك، لا توجد عواقب وخيمة، مثل العقوبات، على الدولة المخالفة".
منغوليا حبيسة الجغرافيا
ومنغوليا دولة حبيسة غنية بالموارد الطبيعية، وتقع بين روسيا والصين، وتوازي مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا. وهي حليفة قديمة لموسكو، وهذا يظهر من المناسبة التي تتمحور حولها الزيارة نفسها.
كما أنها تقع على مسار خط أنابيب غاز جديد مخطط له يربط بين روسيا والصين. وتُجري روسيا محادثات منذ سنوات بشأن بناء خط الأنابيب لنقل 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً من منطقة يامال إلى الصين عبر منغوليا. ويعدّ المشروع "سيبيريا باور 2" أو قوة سيبيريا 2، جزءاً من استراتيجية موسكو للتعويض عن خسارة معظم مبيعاتها من الغاز في أوروبا منذ بداية حرب أوكرانيا. لكنّ المشروع لا يزال يواجه عقبات مع الجانب الصيني تتعلق بمسألة "تسعير الغاز".
في زيارته يوم الثلاثاء، حظي الرئيس الروسي باستقبال حار وفُرشت له السجادة الحمراء، وقال خلال لقائه نظيره المنغولي خوريلسوخ إن "العلاقات مع منغوليا من بين أولويات سياستنا الخارجية في آسيا، وصلت إلى مستوى عال من الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، فيما أمل رئيس منغوليا "أن تسهم الزيارة في تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين".
وهنا يتبادر سؤال جوهري، لماذا ترفض منغوليا تنفيذ مذكرة الاعتقال الدولية؟ بحسابات الربح والخسارة يظهر جلياً أن مصالح أولان باتور مع موسكو أهم من إرضاء المحكمة في لاهاي، فمنغوليا تستورد أكثر من 95 في المئة من احتياجاتها البترولية من روسيا، وهو ما يمثل 35 في المئة من جميع الواردات، بحسب تقرير لصحيفة "الأندبندنت" البريطانية. والنفط الروسيّ هو ركيزة البلاد في تصديرها المواد الخام مثل الفحم والنحاس والذهب، باتجاه الصين.
وبلغة الأرقام أيضاً، ارتفعت الصادرات الروسية إلى منغوليا بما يقارب 9 في المئة سنوياً، في السنوات الخمس الأخيرة، ومن هذه الصادرات الطائرات والمروحيات والمركبات الفضائية.
وقال ناطق باسم الحكومة المنغولية لصحيفة "بوليتيكو" إن بلاده حافظت على "سياسة الحياد في جميع علاقاتها الدبلوماسية"، وأن "أكثر من 20 في المئة من الكهرباء نستوردها من جيراننا المباشرين"، بعد أن كان هذا القطاع يتعرض لانقطاع مستمر.
يشار إلى أنه عندما حظرت روسيا صادراتها النفطية منذ مطلع آذار (مارس) المنصرم، استثنت الدول الصديقة مثل الهند والصين ومنغوليا.
منغوليا في الصراع الدولي
الموقع الجغرافي لمنغوليا، يلعب دوراً جوهرياً في تحديد سياسة البلاد، فهي محاطة بالقوتين العظميين روسيا والصين. وتتربط بكل منهما بعلاقات تاريخية واقتصادية، لذلك اعتمدت على دبلوماسية الانفتاح والتوازن مع جارتيها. ووفقاً لكل ذلك لم تتغير الحسابات في العاصمة أولان باتور بعد حرب أوكرانيا، وللأسباب عينها لم يساور الكرملين أي قلق بشأن هذه الزيارة. لكن قلق موسكو ينصب باتجاه آخر لا ينفصل عن صراعها مع واشنطن.
في مطلع آب (أغسطس) الماضي، وفي إطار جولة آسيوية له استمرت عشرة أيام، زار وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن العاصمة المنغولية أولان باتار، لإجراء محادثات مع "شريك رئيسي في المنطقة"، وقال حينها إن "المقاربة الأميركية ليست موجهة ضد أي دولة". ولمزيد من الوضوح أكد بلينكن أن الرؤية المشتركة هي "الحرية" وأن تحظى أي دولة بفرصة "اتخاذ قراراتها الخاصة والقيام بخياراتها بشأن المستقبل".
وأتت زيارة بلينكن في إطار تعزيز الدعم الأميركي للحلفاء والتصدي لنفوذ الصين في المنطقة، وفي سياق رغبة معلنة لدى الولايات المتحدة بزيادة نفوذها في هذا البلد، في منافسة مباشرة مع الصين وروسيا.