دعوة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى بذل مزيد من الجهود لإحلال السلام في أوكرانيا، وقوله في مقابلة مع قناة ZDF إنه يعتقد أن "الآن هو الوقت المناسب لمناقشة سبل التحول من حالة الحرب هذه إلى السلام بسرعة أكبر"، وتأكيده على أنه اتفق مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في محادثاتهما الأخيرة بينهما "على ضرورة عقد مؤتمر سلام جديد يضم روسيا"، ليست سوى تعبير عن حجم الضغوط التي تتعرض لها الحكومة الألمانية على مستويات عدة.
وأظهرت الانتخابات الأخيرة تقدّماً تاريخياً للأحزاب اليمينية المتطرفة واليسار المتطرف على حدّ سواء على سائر الأحزاب التقليدية، وذلك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، ما شكل صدمة سياسية اجتماعية في آن، خصوصاً أن هذه الأحزاب مثل "البديل من أجل ألمانيا" (يمين) وBSW (يسار) يعارضان الدعم العسكري لأوكرانيا ضد الغزو الروسي، ويدعمان في الوقت نفسه إلى تحسين العلاقات مع موسكو.
وفي هذا السياق تشير المؤرخة من ولاية براندنبورغ الألمانية الشرقية إلى أن كثيرين في شرق ألمانيا يخشون تصعيد الحرب من خلال المزيد من عمليات تسليم الأسلحة "بحجة أن روسيا لا يُمكن هزيمتها وأن المزيد من الدعم لأوكرانيا لن يؤدي إلا إلى استفزازها بشكل غير ضروري وتأخير الحرب". وتقول في مقابلة لموقع "دويتشه فيليه" إنها تعتقد أن هذا المنظور قد ينبع أيضاً من التجربة في ألمانيا الشرقية تحت السيطرة السوفياتية، وأن "وجهة نظر الناس تجاه الاتحاد السوفياتي في ألمانيا الشرقية السابقة، لم تكن سلبية تماماً".
الضغط السياسي الذي ولّدته الانتخابات في الأول من الجاري، ترك ندوبه على الإئتلاف الحاكم الذي منيت أحزابه بخسارة أمام اليمين، ما دفع بعض أعضاء حزبه الديموقراطي الاجتماعي إلى التركيز بشكل أكبر على الدبلوماسية تجاه روسيا.
توقعات قاتمة
الضغوط لا تقتصر على السياسة، بل أن الاقتصاد بدأ يعاني من تعثّر كبير أبرز مظاهره إعلان مجموعة "فولكسفاغن" نيتها إقفال مصانع لها في ألمانيا نفسها، وللمفارقة أن الإعلان جاء بعد يوم واحد من نتائج انتخابات الولايات الشرقية.
تداعيات قرار عملاق السيارات الأوروبي، ستشمل قطاعات اقتصادية أخرى، ويشير "المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية" إلى أن الشركات بحاجة إلى التطور، ويقول رئيس المعهد مارسيل فراتزشير، لـ"يورونيوز"، إن الأمر لا يتعلق بقطاع السيارات فقط "بل أيضاً بالآلات والأدوية والقطاع الكيميائي وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها الكثيرون".
وبدأت بالفعل شركات كبيرة بنقل جزء من قوتها العاملة إلى آسيا وتسريح العمال في ألمانيا وسط ارتفاع أسعار الطاقة والأجور العالية مقارنة بنظيرتها في آسيا، خصوصاً الصين والهند. ومسألة الطاقة هنا مرتبطة بالحرب في أوكرانيا وتعطل امدادات الغاز الروسي باتجاه أوروبا مع تفجير خط "نورد ستريم" واقتصار الاستيراد على خط واحد يمرّ عبر الأراضي الأوكرانية، وهو بدوره مرشح للتوقف في حال لم توافق كييف على تجديد الاتفاق مع موسكو مع نهاية العام الجاري.
ومن جهة ثانية، باتت الصين من أقوى المصدّرين للسيارات الكهربائية، ما يجعل من المصانع الألمانية غير قادرة على المنافسة وتحديداً لجهة الأسعار. وفي هذا الإطار يقول "المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية" إن التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد الألماني يعيش انكماشاً هذا العام، وعلى الرغم من أنه قد يشهد انتعاشاً تدريجياً في السنوات القليلة المقبلة، لكنه حالياً "في حالة ركود تقني، مع استمرار انخفاض الإنتاج الصناعي".
وبما أن صناعة السيارات تعدّ بمثابة العمود الفقري للاقتصاد الألماني، فإن عمليات التسريح الجماعي ستؤدي إلى زيادة النقمة عند الرأي العام، والتي قد تصب في مصلحة الأحزاب اليمينية بشكل أكبر من ما حصل مؤخراً، وذلك مع الانتخابات الفيدرالية في العام المقبل.
أما منتدى المؤسسات النقدية والمالية الرسمية (OMFIF) فيقارب موضوع الاقتصاد الألماني من زاوية أن التحديات الجيوسياسية التي تشهدها الصين أدت إلى تباطؤ النمو الصيني، ما دفع إلى "تقليص وتيرة الصادرات"، إضافة إلى منافسة السيارات الكهربائية الصينية في السوق المحلية لمثيلتها الألمانية. ويضيف تقرير "المنتدى" أن انخفاض التجارة مع روسيا بفعل الحرب الأوكرانية "يجعل من التوقعات قاتمة".
التزامات لا مفرّ منها
كما أن مسألة المهاجرين باتت قضية تستفيد منها الأحزاب المعارضة للضغط على الحكومة الحالية، ما جعل الحكومة الفدرالية تتخذ قرار ترحيل عدد كبير من هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين.
مع هذه الضغوط غير المسبوقة، تجد برلين نفسها أنها أمام التزامات تجاه أوكرانيا كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحليف وثيق للولايات المتحدة الأميركية، ومن الصعوبة بمكان التخلي عنها على الرغم من إعلانها في وقت سابق أنها بصدد تخفيف المساعدات العسكرية إلى ما يقارب النصف.
وهذا الواقع يرشّح بقاء الاقتصاد في دائرة معاناته الحالية من انكماش وخسائر تدفع باتجاه تسريح المزيد من العمال، وسيواصل اليمين واليسار صعودهما على حساب أحزاب الوسط، وهذا التحدي لا يقتصر على ألمانيا فقط إنما على سائر دول القارة.