النهار

الغاز نقطة ضعف أوروبا وسلاح موسكو العابر لسياسة بروكسل
باسل العريضي
المصدر: النهار العربي
الغاز نقطة ضعف أوروبا وسلاح موسكو العابر لسياسة بروكسل
خط "ممر الغاز الجنوبي" من أذربيجان إلى أوروبا (أ ف ب)
A+   A-

الحرب الدائرة في أوكرانيا، وضعت أوروبا في عملية بحث مضن عن مصادر متنوعة للطاقة، بدل الغاز الروسي الذي كان بمثابة الشريان الرئيس للقارة العجوز، لتلبي احتياجاتها المتزايدة. وعلى الرغم من وجود مصادر أخرى مثل الطاقة النووية والطاقة المتجددة التي قطعت فيها شوطاً مهماً للحد من انبعاثات الكربون والتخفيف من تغير المناخ، لكنها لم تصل هذه التقنية حدّ الاستغناء عن المصادر التقليدية الأخرى، وبفعل الحرب الروسية الأوكرانية وجدت بعض الدول أنه لا بدّ من العودة إلى استخدام الفحم الحجري، لا سيّما في بولندا وألمانيا، بعد أن كانت الخطط الأوروبية تقضي بالاستغناء تماماً عن هذا المصدر بسبب تأثيراته البيئية الكبيرة. هذا بالإضافة إلى أن ألمانيا مثلاً استغنت كذلك في عام 2022 عن الطاقة النووية وأقفلت كل محطاتها.

 

وبالتالي كان الاعتماد على الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء وتأمين التدفئة، وقبل الحرب كانت روسيا تاريخياً المصدر الرئيسي لهذه المادة الحيوية، تؤمن نحو 40 في المئة من احتياجات أوروبا عبر خطوط الأنابيب مثل "نورد ستريم" وخطوط أخرى تمر عبر أوكرانيا. كما لايزال النفط معتمداً في وسائل النقل بشكل خاص، وتظهر روسيا هنا أيضاً كأحد المصادر إلى جانب دول الخليج العربي وبعض الدول الأفريقية مثل نيجيريا وليبيا، إضافة إلى النرويج.

 

إن كانت مصادر النفط مؤمنة عبر دول متعددة، فإن المشكلة الأساسية تبقى في الغاز الطبيعي، وهنا تظهر أذربيجان كبديل عن روسيا. مع العلم أن الاستيراد يتم أيضاً من دول أخرى أبرزها الجزائر وقطر والنرويج.

 

أذربيجان مصدر بديل ولكن...  

من الناحية الاقتصادية، فإن أذربيجان باتت تلعب دوراً متزايد الأهمية في الاستراتيجية الأوروبية لتنويع مصادر الطاقة. لكن إمدادات الغاز لتصل إلى وجهتها النهائية لا بدّ أن تمرّ عبر الأراضي التركية، ومن أبرز هذه الخطوط  ممر الغاز الجنوبي (Southern Gas Corridor) الذي يتكون من أجزاء رئيسية عدّة: الأوّل "خط أنابيب جنوب القوقاز" الذي يمتد عبر جورجيا إلى تركيا، والثاني عبر الأناضول ومنها إلى الحدود اليونانية، ويبقى خط ثالث يصل إلى البحر الأدرياتيكي ويعبر اليونان ومن ثم إلى ألبانيا قبل أن يحط في إيطاليا.

 

معظم هذه الخطوط مصدرها "حقل شاه دنيز" في بحر قزوين، أكبر حقل للغاز الأذري، والتطوير الذي شهده في السنوات الماضية كان من العوامل الأساسية التي ساهمت في زيادة إمدادات الغاز إلى أوروبا. وفي تموز (يوليو) 2022، أي بعد أربعة أشهر على الحرب في أوكرانيا، جرى توقيع اتفاقية بين أذربيجان والاتحاد الأوروبي لزيادة صادرات إلى نحو 20 مليار متر مكعب بحلول عام 2027. ومع ذلك فإنّ الكميات التي توفّرها أذربيجان أقل بكثير من الغاز الروسي، إلّا أن المشروع يعتبر خطوة أولى في تنويع المصادر.

 

إنما لضمان أمن واستقرار إمدادات "الممر الجنوبي"، على أوروبا التقليل من المخاطر الجيوسياسية في المنطقة، وهذا ما لم يظهر خلال التوترات العسكرية مع أرمينيا في منطقة ناغورني كراباخ أو "آرتساخ" بحسب التسمية الأرمينية. من جهة ثانية، بما أن تركيا دولة عبور إلزامية، فهي بالتالي قادرة على وضع شروطها على طاولة الإتحاد الأوروبي.

 

تبقى مسألة أخرى لا تقل أهمية عن كل ما سبق، وهي العلاقة التاريخية التي تربط باكو مع موسكو، والتي تطورت بعد استقلال الأولى عن الإتحاد السوفياتي عام 1991 حتى باتت تُعتبر شريكاً اقتصادياً أساسياً في مجالات الطاقة والتجارة، كما تحافظ على علاقة مهمة في المجال الأمني مع روسيا، التي تشكل كذلك مصدراً لا غنى عنه في مجال التسليح والتدريب.

 

وهنا يبرز التحدي الأكبر أمام أذربيجان حول كيفية الحفاظ على هذه العلاقة التاريخية وموازنتها مع الغرب في إطار تنويع شركائها الدوليين.

 

أمام التعقيدات الجيوسياسية في منطقة القوقاز، كانت زيارة لافتة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أذربيجان في آب (أغسطس) الماضي، بعد سنوات من الغياب، وقد وصفها إعلام باكو بأنها استراتيجية، فيما ذهبت التحليلات إلى اعتبار أنها لقطع الطريق أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتوسيع نفوذهما من بوابة أرمينيا باتجاه بحر قزوين، الباحة الخلفية لموسكو، أو من خلال تقديم إغراءات لأذربيجان قد تدفعها أكثر نحو التوجه غرباً.

 

لا بديل عن موسكو؟

لاستبيان مدى تعقيد المشهد، في تحقيق لصحيفة "لو موند" الفرنسية، نقلت عن فرانسوا كزافييه بيلامي، أحد زعماء حزب الجمهوريين (اليمين الفرنسي) وأحد أنصار أرمينيا، قوله "هل شراء الغاز من باكو أقل استنكاراً من شرائه من موسكو؟". وفي التحقيق نفسه الذي نشر في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أدان نائب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي اليساري بيير أوزولياس ما وصفه بـ"لعبة الواقعية السياسية المروعة". وقال: "يجب التشكيك أخلاقياً في التوقيع الذي وضعه رئيس أذربيجان إلهام علييف". في إشارة إلى الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وأذربيجان حول إمدادات الغاز.

 

لكنّ رأي الاتحاد الأوروبي مغاير ويتناقض مع ما تقدمه الأحزاب المتطرفة سواء كانت يمينيّة أم يساريّة، إذ أن بروكسل طلبت توسط باكو لإبقاء إمدادات الغاز الروسي قائمة عبر كييف قبل انتهاء فترة الاتفاقية أواخر العام الجاري. ويوم الجمعة الفائت خلال زيارته إيطاليا، قال علييف إنه "متفائل بإمكانية تحقيق تقدم في المحادثات بين موسكو وكييف للحفاظ على تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى العديد من الدول الأوروبية".

 

أكثر من ذلك، أظهر تحقيق من "تشاتام هاوس" في حزيران (يونيو) الماضي أن "أجزاء من البنية التحتية الحيوية اللازمة لنقل الغاز من أذربيجان إلى الاتحاد الأوروبي مملوكة لشركة لوك أويل الروسية، والمدرجة على لائحة العقوبات الأميركية". وتقول كبيرة الباحثين في المركز أرميدا فان ريج، إن دول مثل رومانيا والمجر عقدت صفقات غاز مع تركيا، وتساءلت "من أين يأتي الغاز عبر خط الأنابيب التركي؟ الإجابة الأكثر ترجيحاً هي روسيا". هذا عدا الاتفاقيات طويلة الأمد الموقعة مع روسيا من دول مثل فرنسا والنمسا، والتي يصعب إنهاؤها مبكراً.

 

اقرأ في النهار Premium