ارتبطت الهواتف العمومية بالاتصالات السريّة التي يجريها أيّ فار من العدالة مع أحد أقربائه، وفق ما تُظهره المسلسلات البوليسية، حيث ما تلبث الشرطة أن تقبض عليه، بعد وشاية أحدهم به، وتتبّع أثر الاتصال، ليصلوا في النهاية إلى تحديد موقع المتّهم.
قد لا يتصوّر المواطن العادي أيّة فائدة لهذا النّوع من الهواتف سوى أنّها أداة نجاة إلى حدّ ما للفارّ من العدالة؛ هذا الأمر لم يكوّنه المواطن بالفطرة، إنما كتّاب المسلسلات ومخرجوها هم الذين ساهموا بشكل كبير في إلصاق الهواتف العموميّة بهذه الصورة النمطيّة. وبالتالي، سيغفل المواطن عن أهمّية وسيلة الاتصال هذه.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل أصبحت الغرفة الحمراء، التي تحتوي الهواتف العموميّة، معلمًا سياحًا يجذب السيّاح لالتقاط صورة أمامه، كما هو الحال في لندن، إذ لا يُمكن أن يفوت أيّ سائح التقاط الصّورة الشّهيرة أمام هذه الغرفة اللافتة، وإذا فوّتها يكن كالذي لم يسافر إلى بريطانيا أو أنّ رحلته كانت "ناقصة".
ولكن لنتوقّف للحظة، ولنفكّر بعيدًا عن الصورة الراسخة في ذهننا حيال الهواتف العموميّة!
قبل أن تُحدث التكنولوجيا ثورتها وتنتج الهواتف المحمولة التي لم تكن بمتناول الجميع في بداياتها، كانت هذه الهواتف العمومية هي الرائجة حينها، ولم تكن منتشرة في كلّ أنحاء البلد الواحد، ممّا جعلها وسيلة الاتصال الوحيدة آنذاك، والتي يصعب الوصول إليها.
كانت هذه الهواتف شاهدة على المكالمات الغراميّة، وعلى الأنباء الحزينة والسعيدة على السّواء. ونظرًا إلى ندرة وسائل الاتصال، كان هناك شبه اكتفاء بالأحاديث ذات الفائدة، أمّا اليوم فباتت كلّ الأحاديث مجرّد "تعبئة وقت" لا بل أصبحت فارغة من مضمونها.
قد لا يكون هناك ذكريات للشباب اللبناني مع الهواتف العمومية، فهي شبه مهملة ومهمّشة اليوم، ممّا يجعل المواطنات والمواطنون يتحاشون استخدامها، وبالتالي هم يفوّتون تجربة لا بدّ للأجيال ألّا يفوّتوها ما دامت هي على حدود الانقراض في العديد من الدول، فيما مَن هم متقدّمون بالسنّ لهم ذكريات معها، وتستحقّ أن تُروى.
بالطبع، كانت الدولة اللبنانية سبّاقة في إحالتها إلى التقاعد قبل غيرها من الدول لانعدام أيّ خطّة صيانة ومراقبة لها. ففي نيويورك - على سبيل المثال - تمت إزالة الهواتف العمومية لتحلّ مكانها نقاط اتصال Wi-Fi عامة.
فمتى سيُتخذ مثل هذا القرار في بلدنا؟