لغاية اليوم، لا تزال العلاقة بين الصين وروسيا أقلّ ممّا روّجت له مخاوف غربيّة بشأن قيام حلف عسكريّ ثنائيّ يهدف إلى هدم النظام الدوليّ. ازدراء الدولتين لنظام ما بعد الحرب الباردة وعداؤهما للولايات المتحدة غير كافيين لتكوين علاقة دفاعيّة رسميّة. بكلمات أخرى، كلّ الحديث عن حلف أو تحالف طبيعيّ بين القطبين لمواجهة "الأحاديّة" الأميركيّة لم يُترجَم في الميدان الأهمّ بالنسبة إلى روسيا: أوكرانيا.
ثمّة أسباب كثيرة تفسّر عدم رغبة الصين في تعزيز موقع جارتها الشماليّة في شرق أوروبا. قد يكون التاريخ المضطرب بين بكين وموسكو أبرزها. ربّما تدفع موسكو بشكل غير مباشر ثمن سياستها في الحرب الكوريّة التي تصادف 2023 الذكرى السعبين لانتهائها.
بعد نجاح الصينيّين الشيوعيّين في الوصول إلى السلطة سنة 1949، استداروا إلى الاتحاد السوفياتيّ لبناء علاقات سياسيّة واقتصاديّة مشتركة. افترض مؤسّس جمهوريّة الصين الشعبيّة ماو تسي تونغ أنّ العقيدة المشتركة بين بيجينغ وموسكو ستسهّل المهمّة، إلى أن وجد العكس. كان الزعيم السوفياتيّ جوزف ستالين يريد استغلال موقع الصين لتحقيق أهداف أخرى تعنى بموقع الاتحاد في أوراسيا.
الدعم المشروط... وغير الناجز
يقول مؤلّف كتاب "الخوف من الأسوأ: كيف حوّلت كوريا الحرب الباردة" صمويل وَلز إنّ ستالين التقى بماو ووافق على مطالب الصين لبناء حلف صينيّ-سوفياتيّ تضمّن دعماً اقتصاديّاً سخيّاً لبيجينغ. أتى ذلك بعد تحقّق شرط واحد: أراد ستالين من الصين أن تعطي الزعيم الكوريّ الشماليّ كيم إيل سونغ الضوء الأخضر لاجتياح كوريا الجنوبيّة. بتلك الطريقة، إذا طال الغزو ودخل الأميركيّون الصراع فستكون الصين هي التي ترسل القوّات، لا السوفيات. وافق ماو، وأعطى ستالين الضوء الأخضر لكيم من أجل الاجتياح. تحقّق إلى حدّ بعيد مخطّط ستالين. فالقوّات الصينيّة (متطوّعو الشعب الصينيّ) تحمّلت القسط الأوفر من أكلاف الحرب.
شجّع ستالين ماو على دخول الحرب حين اقتربت القوّات الأمميّة من الحدود مع الصين. تمكّنت بيجينغ من قلب مسار المعارك، لكن مع استقدام الولايات المتحدة المزيد من القوّات، توجّب على الصين أن تعتمد أكثر على الدعم السوفياتيّ. بالرغم من الوعود الكثيرة التي قدّمها ستالين، كانت الصين شبه وحيدة في الحرب. بحسب أكثر من مؤرّخ، سعى ستالين إلى تفادي الاصطدام المباشر مع الأميركيّين مهما كان الثمن.
مع ذلك، وبحسب الاتّفاقيّة بينهما، أرسلت موسكو (بعد تلكّؤ) نحو 12 فوجاً من مقاتلات "ميغ-15" إلى كوريا الشماليّة بحسب وَلز. وتمّ طلاء تلك المقاتلات بشارات كوريّة شماليّة وارتدى الطيّارون السوفيات الزيّ الرسميّ الكوريّ حتى أنّهم تلقّوا تعليماتهم باللغة الكوريّة عبر الراديو. وطُلب من الذين سقطوا في المناطق التابعة للقوّات الأمميّة الانتحار. كلّ هذا من أجل إخفاء التدخّل السوفياتيّ في الحرب.
تمتّعت مقاتلات "ميغ-15" بتفوّق تقنيّ على نظيرتها الأميركيّة في بداية الحرب قبل أن يستعيد الأميركيّون اليد العليا لاحقاً. بالرغم من جميع نداءات بكين لإدخال موسكو مقاتلات "ميغ-17" الأكثر تطوّراً، رفض الكرملين ذلك قبل تعديل موقفه لكن في الأسابيع الأخيرة من الحرب.
جروح الصين
في بحث عن الحرب أجراه الأستاذ المشارك السابق للتاريخ في جامعة "تكساس أي أند أم الدولية" جانغ شياومينغ، يمكن رؤية حجم الخسائر المادّيّة والمعنويّة التي عانت منها الصين. فبعد نهاية الحرب، "لم يتكبّد الصينيّون خسائر مادّيّة جسيمة في النزاع وحسب، بل وجدوا أنفسهم أمام دَيْن هائل للاتّحاد السوفياتيّ مجموعه 650 مليون دولار. سيضخّم هذا مصاعب الصين لسنوات مقبلة".
بحسب شياومينغ، احتاجت القيادة السوفياتيّة بشكل يائس إلى الصين كي تخدم كحصن لأمن الاتّحاد في آسيا الشرقيّة. "بينما أدرك حدود قدرته الخاصة على شنّ مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، روّج ستالين لتدخّل الصين في كوريا".
امتنع ستالين عن توفير الدعم الجوّيّ في أوقات حرجة من المعركة، أو اكتفى بتقديم مساعدات "قليلة جداً ومتأخرة جداً" بحسب المؤرّخ نفسه. وبالرغم من أنّ الحرب أصبحت حرب الصين وحدها، كان على الأخيرة أن تتشاور مع موسكو بشأن خططها واستراتيجيّتها الحربيّة، كـ"شريك أصغر". وقال مسوؤلون صينيّون إنّ طلب موسكو من الصين دفع ثمن المساعدات "جعل السوفيات يبدون كتجّار أسلحة أكثر من كونهم شيوعيّين أمميّين حقيقيّين" وفق البحث نفسه. بالرغم من أنّ الصين ترى في تلك الحرب انتصاراً كبيراً لها، لا شكّ في أنّ طريقة تعامل الاتحاد السوفياتيّ معها كانت دون الآمال.
ليس مزعجاً للصينيّين
تتردّد بعض أصداء الحرب الكوريّة في أوكرانيا اليوم، وإنّما بشكل معكوس. إنّ انقلاب موازين الشراكة بين روسيا والصين ليس مزعجاً بالنسبة إلى صنّاع القرار في بيجينغ. أصبحت روسيا اليوم بأعين مراقبين كثر هي الشريك الأصغر في العلاقة الثنائيّة. تستفيد الصين من شراء موارد الطاقة الروسيّة بأسعار مخفّضة جداً وبالرنمينبي مقابل بعض الوعود. لم تعد الصين مجرّد "حصن" أو منطقة عازلة" بالنسبة إلى موسكو كما كانت بحسب تصوّر ستالين. روسيا هي الأقرب اليوم إلى لعب دور مشابه.
تستفيد الصين من روسيا كمشتّت لانتباه وجهود الأميركيّين في شرق آسيا، وبشكل شبه مجّانيّ. خلال الحرب الكوريّة، استخدم ستالين الصين لجرّ أميركا إلى شرق آسيا كي تخلو الساحة له في شرق أوروبا. فشل ستالين في إضعاف أميركا أوروبّيّاً، كما خسر حلفه مع الصين لاحقاً. وكما كان الاتحاد السوفياتيّ مهتمّاً بعدم الاصطدام بالأميركيّين، تبدو الصين مهتمّة بعدم دعم حرب على الأراضي الأوروبّيّة من أجل كسب ودّ بروكسل في أيّ حرب باردة أو ساخنة مع الأميركيّين.
هل تتغيّر حساباتها؟
ربّما تتغيّر حسابات الصين في دعم روسيا إن شعرت بخطورة الوضع الميدانيّ بالنسبة إلى الروس واحتمال انعكاسه سلباً على استقرار الحكم في الكرملين. لكن حاليّاً، تبدو حسابات "العقل البارد" و"السياسة الواقعيّة" هي السائدة في بيجينغ. مدى اتّصال تلك الحسابات بالحرب الكوريّة خاضع للنقاش. قد تكون هذه الفرضيّة منفصلة تماماً عن السياسة الصينيّة الحاليّة تجاه أوكرانيا. لكن بالنسبة إلى شعب يرقى التاريخ إلى مرتبة "الدِّين" بالنسبة إليه، على ما يقوله الكاتب الصينيّ هيو بينغ، يصعب استبعاد هذه الفرضيّة من المعادلة، على الأقلّ كعامل من جملة عوامل تساهم في صياغتها.