"ما الذي كان ماكرون يفكّر به؟". بهذه العبارة، تساءل كاتب الشؤون الفرنسيّة في مجلّة "سبكتيتور" غافين مورتيمر عمّا دفع الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون وعقيلته بريجيت إلى حضور حفل إلتون جون الموسيقيّ في باريس مساء الأربعاء. صخب الحفل لم يحجب ضجيج الاحتجاجات على قتل شرطيّ فرنسيّ الشاب نائل (17) من أصول جزائريّة بعدما رفض التوقّف على أحد الحواجز بسبب عدم حيازته رخصة قيادة. بالرغم من الفوضى، لم يستطع ماكرون تفويت الحفل الموسيقيّ. صورة حضور الرئيس تلك المناسبة صبّت الزيت على النار.
ظلمٌ في التشبيه
لا تضادّ بالضرورة بين حضور ماكرون الحفل الموسيقيّ واهتمامه بإخماد الأزمة. لكنّ افتقار ماكرون الشعبيّة وبالتحديد مهارة التواصل مع الفرنسيّين يكاد يمثّل أصل كلّ المشاكل بالنسبة إلى الرئيس الفرنسيّ. بحسب مورتيمر، ماكرون رئيس "جيّد مع التفاصيل لكن ليس مع الناس. هو ذكيّ جدّاً لكنّه يفتقر إلى التعاطف. يعبّر جيّداً عن نفسه لكنّه عاجز عن التواصل مع الجماهير. إنّه النقيض القطبيّ للرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي".
بالتأكيد ثمّة بعضٌ من الظلم في مقارنة كهذه. مسيرتا الرجلين مختلفتان وتحتّمان إنماءً مختلفاً للجانب العاطفيّ في التعامل مع الناس. بهذا المعنى، لن يجيد التكنوقراطيّ التواصل مع الجمهور كما هي الحال مع الممثّل. وبالرغم من مآسيها الكالحة، قدّمت الحرب على أوكرانيا فرصة كبيرة لزيلينسكي كي يسطع نجمه. ليست الفرصة انتقاصاً من جهود أو مهارة الرئيس الأوكرانيّ. فانتهاز الفرص بحاجة إلى حنكة وجرأة. كان احتفاظ زيلينسكي بالجرأة في ذروة القصف والتهديد باغتياله، والأهمّ، مع عرض أميركيّ له بالهروب من البلاد، علامة فارقة. لكن باختصار، ما كان متاحاً لزيلينكسي حُرم منه ماكرون في نهاية المطاف. كلفة ذلك باهظة الثمن: "هو لا يُلهمُ شعبه، هو يُغضبه، وهذا الغضب هو الآن في كلّ مكان في فرنسا"، بحسب مورتيمر.
"شيكات لشراء سلام هشّ"
تفادى ماكرون لغير سبب حلّ المشاكل المتنقّلة التي واجهته. من "السترات الصفر" إلى احتجاجات رفع سنّ التقاعد، راهن الرئيس الفرنسيّ على الوقت لانتزاع التهدئة من المحتجّين. كان رهانه مناسباً، إنّما على المدى القصير. تفادي المشاكل يحتّم عودتها لاحقاً بشكل أعنف. لكنّ الاعتقاد بأنّ الرهان على الوقت هو صفة "ماكرونيّة" بحتة في فرنسا يحتاج إلى إعادة تقييم.
أشارت صحيفة "ألموند" في افتتاحيّتها إلى "سياسة المدينة" التي نفّذتها الحكومات الفرنسيّة المتعاقبة على مدى ثلاثين عاماً إذ قادت حملة لهدم الحانات والأبراج القديمة واستبدالها بمبانٍ صغيرة حديثة. حدّت هذه السياسات من تدهور المدن لكنّها لم تنجح في منع تهميش أفقر السكان أو في تزويد الأحياء المسمّاة "ذات الأولوية" بخدمات عامّة تعادل باقي المدن. كما انتقدت تخفيف الضوابط على الشرطة في استخدام السلاح ضدّ غير الممتثلين لأوامرها على الحواجز.
من جهته، تعجّب الفيلسوف الفرنسيّ جان-لو بونامي في صحيفة "الفيغارو" من فكرة أنّ مفتاح حلّ مشاكل المدن موجود في المدن نفسها. توجّب على فرنسا وقف استقبال مهاجرين بلا شهادات منذ أعمال شغب 2005 لأنّ ذلك كان سيمنح الحكومة الموارد لإنفاقها على المهمّشين الأساسيّين في المدن وإنجاح دمجهم الاجتماعيّ بدلاً من تحوّل المباني إلى "صخرة سيزيف" مخصّصة لاستقبال عائلات تلو الأخرى بلا توقّف.
ترافق كلّ ذلك مع نيوليبيراليّة شجّعت الاستهلاك عوضاً عن التصنيع ومع حلّ المشاكل عبر إنفاق "أعمى" للأموال بالإضافة إلى إعادة تدوير شعارات تتجنّب تشخيص المرض لمصلحة الحديث عن العوارض. ما حصل أنّ فرنسا كانت تكتفي بسحب "دفتر شيكات لشراء سلام اجتماعيّ محفوف بالمخاطر".
أسئلة عن نوعيّة "الغضب"
لا يمنع الإخفاق الحكوميّ في ردم الهوّة الاجتماعيّة ضمن المدن، أو حتى القوانين التي تساهلت مع عناصر الشرطة في إطلاق النار على المشتبه بهم، طرح أسئلة أخرى عن طبيعة ردّة الفعل. إذا كان هناك من "عنصريّة" و"عنف" لدى الشرطة الفرنسيّة في التعامل مع سكّان الضواحي، كما يجادل مثلاً هاريسون ستيتلر في صحيفة "نيويورك تايمز"، فالعنف المتمثّل في حرق المدارس والمكتبات ووسائل النقل العامّة ليس أقلّ سوءاً. ولا يحتاج الأمر إلى بحث معجميّ كبير للتمييز بين الغضب والسرقة. على أيّ حال، أعلنت والدة نائل أنّها لا تتّهم كلّ مؤسّسة الشرطة إنّما فقط العنصر الذي قتل ابنها.
فرنسا على موعد قريب مع استضافة كأس العالم للرغبي الخريف المقبل والألعاب الأولمبيّة والبارالمبيّة السنة المقبلة. بالتالي، ثمّة حاجة الآن لاستعادة البلاد بريقها استعداداً للأحداث الرياضيّة، إن لم يكن للعب دور عالميّ أكبر على ما يطمح إليه رئيسها. كما هي الحال مع أيّ أزمة اجتماعيّة، ثمّة عوامل عدّة تشترك في إشعال الفتيل. كتب فيليب مابيل في "لا تريبون" أنّ حلول الأزمة الحاليّة تكمن في التعليم والعودة إلى سلطة الأهل واحترام المؤسّسات وعودة الثقة بين الشرطة والسكّان وزيادة فرص العمل ومكافحة التمييز.
وهذا ما يفرض خيارات صعبة
ما طرحه مابيل عناوين لسياسات طويلة المدى يتخطّى إطارها الزمنيّ مدّة ولاية رئاسيّة واحدة. يخفّف ذلك أيّ آمال بشأن إمكانات ماكرون الذي فقد الأغلبيّة البرلمانيّة في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة. لكن في ما يخصّ الأمن على الأقلّ، تبدو صعوبة اتّخاذ الرئيس الفرنسيّ قراراً حاسماً شديدة الوضوح. لو قبل بفرض حال الطوارئ فسيُتّهم بأنّه ينفّذ مطالب اليمين واليمين المتطرّف. وفي حال رفض ذلك سيجد نفسه في توتّر أكبر مع الشرطة أوّلاً، كما مع قسم من الفرنسيّين الراغبين بعودة الهدوء خلال العطلة.
في 27 تشرين الأوّل سنة 2005، اندلعت احتجاجات مشابهة في ظروفها حين قُتل مراهقان من أصول مهاجرة بصعقة كهربائيّة وهما يحاولان الهرب من ملاحقة الشرطة. استمرّت الاحتجاجات حينها نحو ثلاثة أسابيع وقد اعتُبرت الأعنف منذ تظاهرات 1968. وأعلنت فرنسا حال الطوارئ بعد 11 يوماً على اندلاعها. التحدّي اليوم أكثر تعقيداً. ماكرون مصيب عندما يقول إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تسهّل عمليّات التخريب. لكن بصفته رئيساً للجمهوريّة، سيُطلب منه أكثر من مجرّد تحليل صحافيّ.