انقلب المشهد تماماً. الصين التي نجحت بسرعة قياسيّة في تسخير الموارد لاحتواء فيروس "كوفيد-19" في مراحله الأولى تواجه اليوم معاناة كبيرة في كبح موجاته المتتالية. وبالعكس، بينما تكبّد الغرب خسائر بشريّة ومادّيّة كبيرة بسبب الجائحة خلال السنة الأولى على انتشارها، يبدو اليوم أنّه تخطّاها إلى حدّ بعيد. يعزو قسم كبير من المراقبين المعاناة الصينيّة اليوم إلى سياسة "صفر كوفيد".
فكرة هشّة
تعتري هذه السياسة إشكاليّة كبيرة. في جانب منها، هي تعتمد على فكرة أنّ الطبيعة يجب أن تتكيّف مع الحلول البشريّة لا العكس. تحتاج الحلول إلى المرونة لا الجمود. فما نجح مع بداية الجائحة أصبح العقبة أمام النجاح في مرحلة لاحقة. لم يكن لدى الحكومات في المراحل الأولى سوى فرض الإغلاق وارتداء الكمامات لمنع تفشّي "كوفيد-19" بانتظار ابتكار اللقاحات الفعّالة. بعدها، بإمكان صنّاع القرار تخفيف القيود. بمعنى آخر، لجأت الحكومات إلى "تسطيح منحنى" الإصابات قبل رفع الإغلاق. في هذا الخيار، تمكّنت الصين من فعل ذلك سريعاً بالنظر إلى طبيعة حكمها الشديدة الهرميّة. على الضفّة الأخرى كان الغرب يعاني من حالة ضياع وعدم القدرة على فرض الإغلاق على نطاق واسع. أتى التحوّل بشكل كبير مع ابتكار اللقاحات.
أثبتت اللقاحات المبنيّة على تقنيّة الحمض النوويّ الريبوزيّ المرسال فاعليّة كبيرة في الوقاية من مضاعفات الفيروس الشديدة ولفترة زمنيّة مقبولة (نحو ستة أشهر). غابت هذه النسبة من الفاعليّة عن اللقاحات الصينيّة وقد وصلت بحسب بعض الدراسات إلى 60% لـ"سينوفاك" مقابل 90% لـ"مودرنا" و"فايزر". والنتائج نفسها تقريباً تنطبق على "سينوفارم" بحسب دراسة أخرى. ورفضت بكين أيضاً شراء اللقاحات الغربيّة. كانت النتيجة تعاقب عمليّات الإغلاق ورفع الإغلاق. لبكين همّ شديد في حماية كبار السنّ.
التنافس يطرح أسئلة حتميّة
في عالم اليوم الذي تشتدّ فيه حدّة التنافس بين الولايات المتحدة والصين، تجذب أزمة "كوفيد-19" وبشكل تلقائيّ المقارنات بين مزايا ومساوئ الأوتوقراطيّة والديموقراطيّة. يبدو أنّه على المدى القريب، غالباً ما يكون أداء الأوتوقراطيّات في مواجهة الأزمات أفضل. يبرز المنعطف حين تتطلّب تلك الأزمات تغييراً في القراءة. والمشكلة الأكبر حين يختلط السياسيّ بالعلميّ. تقول مجلة "إيكونوميست" إنّ الرئيس الصينيّ شي جينبينغ حوّل أزمة صحّيّة إلى أزمة سياسيّة. بالفعل، أصبحت سياسة "صفر كوفيد" ملازمة لأداء الرئيس. ترى المجلّة أنّ هذه السياسة أصبحت "اختبار ولاء". في أنظمة الحكم الأوتوقراطيّة ثمّة تسامح أقلّ مع الأخطاء، وحتى مع ما يمكن تصوّره كأخطاء. بدلاً من أن يكون تعديل سياسة "صفر كوفيد" خطوة طبيعيّة للتكيّف مع متطلّبات الأرقام، يثير التعديل خوفاً من أن ينظر الشعب إلى الرئيس على أنّه "أخطأ". لكنّ التظاهرات الصينيّة تُبيّن أنّ البعض على الأقلّ يعتقد أنّ سياسة الإغلاق رهان في غير محلّه.
في الواقع، ليست سياسة "صفر كوفيد" خاطئة بحدّ ذاتها. اعتمدتها دول أخرى بنجاح من بينها نيوزيلندا وأوستراليا الديموقراطيّتان كما يقول خبراء صحّيّون. عيبها الوحيد ربّما، لكن الأكيد، أنّها غير قابلة للاستدامة. على سبيل التذكير، تدخل الجائحة قريباً عامها الرابع. يصعب توقّع قبول أيّ شعب بهذا الكمّ الهائل من عمليّات فرض ورفع الإغلاق طوال هذه الفترة، حتى ولو كان من أجل الخير العام خصوصاً إذا بدأ يقارن أوضاعه مع أوضاع مجتمعات أخرى.
توقّع البعض أن يتحدّث شي بعد فوزه بولاية ثالثة عن المسار الذي ستعتمده الصين في المرحلة المقبلة لمواجهة "كورونا". تطرّق شي إلى إنجازات سياسة "صفر كوفيد" في منع التفشّي وتجنّب ارتفاع أعداد الوفيات، لكنّه لم يتحدّث عن الخطط المستقبليّة. أن يترك ذلك قسماً من الصينيّين في حالة من الشكّ لم يكن مستبعداً.
هذا ما يشاهده الصينيّون على التلفاز
ما يفاقم المشاعر المحتملة من الخوف أو الريبة أو الغضب هو التوقيت غير الملائم لهذه السياسة. بينما يحتجّ بعض الصينيّين على التدابير القاسية لمنع تفشّي الجائحة، تعرض قنوات التلفزة مباريات كرة القدم في بطولة كأس العالم 2022. المدرّجات ممتلئة وهناك مباريات تجذب أعداداً قياسيّة من الجماهير ومن دون كمامات بطبيعة الحال. بحسب شبكة "بي بي سي" البريطانية: "تتساءل صين صفر كوفيد: هل كأس العالم على كوكب آخر؟" ربّما يغذّي التناقض في المشاهد بين قطر والصين التظاهرات الحاليّة.
مصدر الإزعاج لبعض الصينيّين قد لا يكون فقط تقييد حرّيّة التنقّل وازدياد الأعباء الاقتصاديّة على الرغم من أهمّيّتهما. أشارت "سي أن أن" إلى أنّه عند اندلاع حريق في أحد مباني منطقة أورومتشي (شمال غرب) أواخر الشهر الماضي، واجه رجال الأطفاء صعوبة في الوصول إليه بسبب قيود الإغلاق. والأمر نفسه انطبق على محاولة بعض السكّان الهرب وفقاً للتقرير الذي استند إلى محادثة مع علي عبّاس من تركيا، وهو جدّ الفتاة التي اندلعت النيران في مبناها بسبب عطل كهربائيّ. قد يكون اشتعال المبنى سبباً أساسيّاً في اشتعال الاحتجاجات.
ضبابيّة في بكين
ليس شي مجرّداً من أسلحة المواجهة الإعلاميّة. بإمكانه القول إنّ الحياة في الغرب عادت إلى طبيعتها بعدما تكبّد خسائر كبيرة في الأرواح. على سبيل المثال، خسرت الصين نحو 6 آلاف شخص بسبب الجائحة من أصل مليار وأربع مئة مليون نسمة. بينما سجّلت الولايات المتحدة أكثر من مليون وفاة من أصل 330 مليون نسمة. علاوة على ذلك، ربّما تخشى بكين من أن يؤدّي رفع الإغلاق إلى أعداد وفيات هائلة تتخطى نصف مليون نسمة بما أنّ نسبة التلقيح بثلاث جرعات لم تتجاوز 68% ممّن هم فوق الثمانين من العمر. لكنّ الأرقام وحدها لا تستطيع الصمود أمام مشاعر الإنهاك. كما لا تستطيع الصمود أمام أرقام أخرى تتعلّق بالأداء الاقتصاديّ.
لهذا السبب، تقول بكين إنّها بدأت بتليين القواعد الصارمة المتعلّقة بمكافحة الجائحة. يبقى السؤال عمّا إذا كان التساهل سيستمرّ أو سيتحقّق في الأشهر القليلة المقبلة. لا تبدو الإجابة بـ"نعم" مضمونة. الشتاء على الأبواب والخوف من ظهور متحوّرات جديدة لـ"كورونا" حاضر. "أوميكرون" سريع الانتشار بالرغم من أنّ أعراضه خفيفة. إذا كانت الصين لا تستطيع التسامح مع المتحوّر الحاليّ فلا يمكن توقّع أنّها ستتساهل مع احتمال ظهور أنواع أخرى ربّما تكون أكثر قابليّة للعدوى.
أشهر صعبة تنتظر الصينيّين. صعوبة تفرض نفسها أيضاً على انطلاقة الولاية الثالثة للرئيس الصينيّ.