كادت بالي الإندونيسيّة تفتتح حقبة جديدة في العلاقات بين بكين وواشنطن. لقاءٌ بين الرئيسين جو بايدن وشي جينبينغ على هامش قمّة مجوعة العشرين أعاد بعض الدفء إلى علاقات طالت برودتها. لكنّ منطاداً واحداً ألغى مفعول أيّ تقدّم إيجابيّ متوقّع. ليس أنّ قمّة بالي تمتّعت بالقوّة الكافية لإزاحة كلّ نقاط التوتّر في العلاقات الثنائيّة. لكن بالحدّ أمكن قمّة تشرين الثاني أن تفتح الباب لاستكشاف كيفيّة إطلاق حوار بشأن قضايا مشتركة. بالفعل، بعد تلك القمّة برز مثلان "مضيئان"، أقلّه بالنسبة إلى الأميركيّين.
في كانون الثاني، نقلت الصين أحد أبرز "ذئابها المحاربين" على المستوى الديبلوماسيّ إلى منصب آخر، على ما يبدو، لتخفيف الاحتكاك الإعلاميّ مع الولايات المتحدة. فقد عيّنت بكين الناطق السابق باسم وزارة خارجيّتها جاو ليجيان في نيابة إدارة وزارة الخارجيّة لشؤون الحدود والمحيطات. تزامن ذلك مع معلومات باحتمال تولّي نائب وزير الخارجيّة الصينيّة والمتخصّص في الشؤون الأميركيّة شي فنغ منصب سفير الصين في واشنطن. قالت "وول ستريت جورنال" الشهر الماضي إنّ هذا الأمر، لو حصل، سيمثّل "استمراراً للتخفيف التدريجيّ لأسلوب الذئب المحارب الحادّ الذي ميّز الديبلوماسيّة الصينيّة في السنوات الأخيرة."
فرحة لم تتمّ
بدّد المنطاد الصينيّ الذي اخترق الأجواء الأميركيّة كلّ المؤشّرات الإيجابيّة. قالت الصين إنّ المنطاد مخصّص لأغراض الرصد الجوّيّ. وأعربت عن "أسفها" لدخوله المجال الجوّيّ الأميركيّ بفعل "قوّة قاهرة". لم يقنع هذا الادّعاء واشنطن. قالت وزارة الدفاع الأميركيّة إنّ المنطاد تميّز بقدرة على المرونة كما أنّه قام بعدد من الاستدارات الموجّهة حتى وصل إلى مونتانا، موطن بعض صوامع الصواريخ البالستيّة العابرة للقارّات.
مع ذلك، انتظرت الولايات المتّحدة نحو يومين لتدميره كي لا يسقط فوق مناطق مأهولة. وأعلنت عن إسقاطه يوم السبت بعدما عطّلت معظم إمكاناته الرصديّة. أغضبت تلك الخطوة الصين فقال الناطق باسم وزارة دفاعها تان كيفي في بيان بعد ظهر الأحد بالتوقيت المحلّيّ إنّ "الولايات المتحدة هاجمت مركبتنا الجوّيّة المدنيّة بدون طيّار، وهو ردّ فعل مفرط بشكل بديهيّ. نعرب عن احتجاجنا الرسميّ ضدّ هذه الخطوة من قبل الجانب الأميركيّ." وأضاف أنّ بلاده "تحتفظ بحقّ استخدام الوسائل الضروريّة للتعامل مع أوضاع مشابهة." وكانت وزارة الخارجيّة الصينيّة قد أصدرت بياناً مشابهاً في وقت باكر من الأحد محتجّة على الخطوة التي "انتهكت بشكل خطير الممارسة الدوليّة".
رحلة بلينكن الملغاة... غير مهمّة؟
في غضون ذلك، ألغت الولايات المتحدة رحلة وزير خارجيّتها أنتوني بليكن إلى الصين والتي كانت مقرّرة اليوم. قلّلت الصين من أهمّيّة الخطوة الأميركيّة قائلة إنّ الصين والولايات المتحدة "لم تعلنا قطّ عن أيّ زيارة، وإصدار الولايات المتحدة لهكذا إعلان هو خاص بهم، ونحترم هذا". مع ذلك، كان تلك الزيارة ستمثّل الفرصة الأولى بعد قمّة بالي لاستكمال مدّ الجسور بين الأميركيّين والصينيّين. كما أنّه مضى على آخر زيارة لوزير خارجيّة أميركيّ إلى الصين نحو خمسة أعوام (2018). إلى جانب ذلك، كان الناطق باسم وزارة الخارجيّة الصينيّة وانغ ونبين قد "رحّب" في 17 كانون الثاني بزيارة بلينكن، مضيفاً أنّ "الصين والولايات المتحدة على اتّصال الآن حول الترتيبات المحدّدة."
وبحسب صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانيّة ومجلّة "تايم" الأميركيّة كان شي سيستقبل بلينكن خلال الزيارة. وكتبت المجلّة الأميركيّة أنّ تلك الخطوة فاجأت الديبلوماسيّين. بالتالي، ليس إلغاء الزيارة حدثاً عاديّاً يعني واشنطن حصراً. ستكون الصين المتضرّر الأوّل من إلغاء، أو حتى "إعادة جدولة" الزيارة إلى وقت "تسمح به الظروف" كما قال لمجلّة "بوليتيكو" المسؤول البارز السابق عن الشؤون الآسيويّة في إدارة أوباما والذي لا يزال على اتّصال بمساعدي بايدن دانيال راسل. فالصين خارجة من تداعيات احتجاجات على سياسة "صفر كوفيد" التي تركت أثرها على الاقتصاد الصينيّ أوّلاً. لذلك هي بحاجة للانفتاح على الغرب لإعادة ضخّ الحياة في اقتصادها. حضور شي قمّة بالي ربّما كان في الأساس تعبيراً عن حاجة صينيّة كهذه بعد فترة طويلة من التوتّر.
خطوة ستحدّد المسار المقبل
يتعلّق مصير العلاقات الآن بما يمكن أن تستخرجه الإدارة الأميركيّة من المنطاد الصينيّ. لو وضعت واشنطن يدها على معدّات مرتبطة بالتجسّس لا برصد الأحوال الجوّيّة فستتّخذ الأمور منحى تنازليّاً يرجّح أن يطول. لكنّ مناطيد كهذه عادة ما تكون صلبة ويتطلّب إسقاطها قوّة حركيّة أو تفجيريّة وازنة. احتمال أن تتعرّض معدّات المنطاد إلى دمار كبير أمر وارد. وبينما يمكن أن يخفّف هذا الاحتمال من قوّة الاصطدام السياسيّ، لن يكون بالإمكان الرهان كثيراً على عدم قدرة البنتاغون على تفحّص طبيعة المنطاد بوسائل أخرى. يعزّز هذه الفرضيّة استغراقُ واشنطن وقتاً طويلاً نسبيّاً قبل إسقاطه. وهذا على أيّ حال ما قاله مسؤولان في وزارة الدفاع لوكالة "أسوشييتد برس" مشيرين إلى أنّ إمكانات المنطاد الرقابيّة ليست أعلى من تلك التي يمكن أن تحصل الصين عليها من خلال الأقمار الاصطناعيّة.
قد يكون التشدّد تجاه الصين الموضوع الخارجيّ شبه الوحيد الذي يَجمع طرفي الصراع السياسيّ في واشنطن. الديموقراطيّون والجمهوريّون متفقون على "التحدّي" وحتى "الخطر" الذي تمثّله بكين على الولايات المتحدة. يستتبع ذلك أنّ رفع سقف اللهجة مع الصين هو مكسب شعبيّ داخليّ قبل أن يكون معبراً إلى حماية الأمن القوميّ الأميركيّ من منظور سياسيّ مجرّد. في 2020، كانت نسبة الأميركيّين الذين نظروا بطريقة غير مؤاتية إلى بكين نحو 79 بالمئة. في 2022، أصبحت 82 بالمئة وفق مركز "بيو" للأبحاث. من هنا صعوبة توقّع لجوء واشنطن إلى التهدئة قريباً.
ما هو شبه مؤكّد
حتى مع افتراض أنّ الديموقراطيّين سيفضّلون التقليل من قضيّة المنطاد للتعاون حول قضايا مشتركة كالتحدّيات المناخيّة مثلاً، سيكون الجمهوريّون بالمرصاد. والتساهل في هذه القضيّة هديّة شبه مجّانيّة للجمهوريّين في سنة يعلن فيها معظم الطامحين إلى البيت الأبيض ترشّحهم. وسبق أن بدأت الاتّهامات الجمهوريّة للإدارة بإبداء الضعف لأنّها تباطأت بإسقاط المنطاد كما فعل السيناتور الجمهوريّ روجر ويكر.
ربّما كان تقليل الصين من إلغاء زيارة بلينكن محاولة لاحتواء التداعيات. هي خطوة قد تسهّل على بايدن عدم رفع سقف التحدّي. لكنّها لن تكفي لترطيب الأجواء بين العاصمتين. ورصدُ واشنطن منطاداً صينيّاً آخر فوق أميركا اللاتينيّة لا يعبّد هو الآخر الطريق إلى الحلحلة، أقلّه ليس في المدى المنظور.
ثمّة أسئلة كثيرة بشأن هدف الصين من توجيه المنطاد إلى الأجواء الأميركيّة، إذا كانت هذه هي نيّتها في الأساس. لكن بصرف النظر عمّا إذا تعمّدت بكين فعلاً التجسّس على الولايات المتحدة أم أنّ ما حدث هو فعلاً انحراف منطاد مدنيّ بحت عن مهمّته، تبقى النتيجة واحدة: المشكلة أتت في توقيت سيّئ، إن لم يكن في التوقيت الأسوأ، بالنسبة إلى الصين.